فنيت في (جيته) وقادني إلهامه وروحه، وأهبت بلغة القرآن والوحي أن تتسع لهذه النفحاتالقدسية فأسعفتني ببيانها الذي يتجدد على الدهر ويزهو على طوال القرون. ثم أصبح فرتر بعد ذلك لنفسي صلاة حب ونشيد عزاء ورقية هم! كأنما كان (جيته) يناديها من وراء الغيب حين يقول في تقدمته لفرتر: وأنت أيتها النفس. . . إذا أشجاك ما أشجاه من غصة الهم وحرقة الجوى، فاستمدي الصبر والعزاء من آلامه، وتلمسي البرء والشفاء في أسقامه، واتخذي هذا الكتاب صاحباً وصديقاً إذا أبى عليك دهرك أو خطؤك أن تجدي من الأصدقاء من هو قرب إليك وأحنى عليك!).
أرأيت إلى هذه الصورة التي رسمها الزيات لنفسه ولشباب تلك الفترة التي حددناها لك بالربع بالخيال، وبهذه الأسلحة التي لا تقطع ولا تدفع كانوا يواجهون الواقع في معركة الحياة. وما أكثر ما كان الواقع يصدمهم بمرارته ويلفح شعورهم بقسوته فيرتدون عقب كل جولة من جولات النضال ونفوسهم مثخنة بالجراح. كان الحياء يحول بين نوازعهم الوقادة وبين متعة الانطلاق، وكان الانطواء يحول بين عواطفهم الجياشة وبين نعمة التحرز، وكانت العزلة تحول بين رغائبهم الوثابة وبين فرصة الظهور، ويقف الخيال بعد هذا كله ليعترض طريق مثلهم العليا لأن المثل العليا لا يمكن أن تتحقق على جناح الخيال. . . ومن هنا وجد هذا المزاج القاتم وهذا الطبع الحزين، نتيجة لهذه الحياة التي كانت تحيط بهم وهي خالية من أفراح النفس ومباهج الروح وأعياد الشعور؟
لقد كان الجو الذي يعيشون فيه جو (الرومانسية الوجودية) أي جو الإحساس بالفراغ والسكون والقفر، يعقبه جو الخلوة إلى النفس والطبيعة وهواجس الأحلام هذه (الرومانسية الوجودية) التي أصابتهم (بمرض العصر) في ميدان الحياة قد دفعتهم دفعاً إلى جو (الرومانسية الفنية) في ميدان الأدب، حتى أصبح المزاج القاتم لا يكلف إلا بالشعر القاتم، والطبع الحزين لا يعجب إلا بالأدب الحزين، سواء أكان ذلك في الإنتاج الأدبي المقروء أم كان ذلك في الإنتاج الذاتي والمنقول. . . ومن هنا كان شعر علي طه فيما ينظم شعر اللوعة والدمعة والأنين والحنين، وكان أدب الزيات فيما يترجم أدب الحسرة والزفرة والبكاء والعويل! وهاهو الزيات يقدم إلينا مزاج العصر ممثلاً في الربع الأول من هذا القرن عندما كان يبحث عن نفسه متلمساً لها العزاء والسلوى في قراءة لون خاص من