للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

التربية وطبيعة المجتمع في حس مشبوب يتوقد شعوراً بالجمال؛ وقلب رغيب يتحرق ظمأ إلى الحب، ونوازع طماحة ما تنفك تجيش، وعواصف سيالة ما تكاد تتماسك. . . فالطبيعة في خيالي شعر، وحركات الدهر نغم، وقواعد الحياة فلسفة! وكان فهمي لكل شيء وحكمي على كل شخص يصدران عن منطق افسد أقيسته الخيال، وزور نتائجه المثل الأعلى؛ ثم غمر هذه لحال التي وصفت هوى دخيل هادئ ولكنه ملح، فسبحت منه في فيض سماوي من النشوة واللذة، وأحسست أن وجودي الخالي قد امتلأ، وقلبي الصادي قد ارتوى، وحسي الفائر قد سكن. وتخيلت أن حياتي الحائرة قد أخذت تسير في طريق لا حب تنتثر على مدارجه نواضر الورود، وترف على جوانبه نوافح الريحان، وتزهو على جوانبه ألوان عبقر، وترقص على حفافيه عرائس الحور. وذهبت أسلك هذا الطريق السحري محمولا على جناح الهوى كأنني (فوست) على جناحي (ميفستوفاليس) حتى ذكرني الزمان الغافل فأقام فيه عقبة اصطدم عندها الخيال بالواقع الحبيب بالخاطب والعاطفة بالمنفعة! على أنني بقيت على رغم الصدمة حياً، ولا بد للحي أن يسير!

تطلعت وراء العقبة أنظر الطريق فإذا الأرض قفر والورد عوسج والريحان حمض والعرائس وحوش. . . فشعرت حينئذ بالحاجة إلى الرفيق المؤنس! ولكن أين أنشد ما ابغي وحولي من الفراغ نطاق مخيف، وأمامي على أسنة الصخور أشلاء وجثث؟ هذه أشباح صرعى الهوى تتراءى لعينيَّ، وهذه أرواح قتلاه تتهافت علي، وهذه سجلات مصارعهم بين يدي. فلم لا أحدو بأناشيدهم رواحلي، وأقطع بمناجاتهم مراحلي، وألتمس في مواجعهم لهواي عزاء وسلوة؟

قرأت: هيلويز الجديدة، ورينيه، وأتالا، وأودولف، ودومنيك، وماريون دلورم، ومانون ليسكو، وذات الكاميليا، وجرازيلا، ورفائيل، وجان كريف. . . وتوثقت بأشخاصها صلاتي، وتصعدت في زفراتهم زفراتي، وتمثلت في نهايتهم المحزنة نهايتي، ولكنهم كانوا جميعا غيري! نتفق في الموضوع ونفترق في الوضع، كالنساء النوادب في المناحة، تندب كل واحدة منهن فقيدها وموضوع الأسى للجميع واحد: هو الموت!

فلما قرأت (آلام فرتر) سمعت نواحاً غير ذلك النواح، ورأيت أرواحا غير هاتيك الأرواح، وأحسست حالا غير تلك الحال. . .

<<  <  ج:
ص:  >  >>