للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وسكت. وخلت - يا صاحبي - أن الكون كله يشخص بأبصاره نحوي، ويحملق في دهشة وتساؤل، ويسخر مني ويهزأ بي، ورأيت في هذا الصمت خطابا مجلجلا يصدع الآذان ويرعب القلوب. ولما طلا هذا الصمت خلت أن قلبي يكاد يصعق وأن روحي تكاد تزهق، لولا أن أبي الشيخ قد أنقذني فرفع رأسه ونظر إلي نظرة حازمة صارمة يمازجها العطف والحنان. وقال: قلت لك - يا بني - وأعيد القول: (يا بني لست أخشى رأي الشباب في عقل الشيوخ.) أن المرأة - يا بني - لا تجد العقل إلا في الشارع) فدعها يا بني تجد هذا العقل الضائع. ولم أقل هذه المرة: (وهي تجده في العلم وفي المدرسة وفي الجامعة). ولكني قلت بمرارة وألم. وأولادي - يا أبي - إنهم أحبائي الأعزاء فكيف أقتل السعادة والأمان في قلوبهم؟!.

وهنا ثار أبي في وجهي قائلاً: إنهم أولادك أنت وتستطيع أن تكون لهم أبا وأما، ومثل هذا في الدنيا كثير، وأن الرجل الحق من يستطيع إن أصابه سهم من سهام الدهر، أن ينزعه بقوة وعزم، ثم يقف مرة أخرى ليكافح. فلا تترك للخور سبيلا إليك، فضمد جراحك ثم واجه الدهر بثبات وإيمان وصبر، دع الخائنة - يا بني - تلق جزاء خيانتها، فليس أقدر على سحق الإثم والشر من العقاب. وأولادك!. ماذا كنت تصنع لو أنها ماتت؟!. كنت سترضى بالقضاء النازل وتتدبر أمرك.

ألا فاعلم - يا بني - أن الخائنة ميتة في قاموس الدين والأخلاق والكرامة. ولكن حذار أن يعرف أولادك عن أمهم شيئاً في المستقبل - دعهم يعيشوا دائماً وإلى الأبد على جهل بتاريخها. لئلا تخدش كرامتهم، ويعيشوا أذلاء. فإن سألوك عنها فقل لهم: إن هذه الأرواح - جنود مجندة، فما تعارف ائتلف، وما تناكر اختلف، ويشاء حظ أبيكم أن لا يهتدي إلى الروح التي تأتلف إلى الأبد مع روحه، فكونوا أسعد حظاً منه، واستمعوا إلى نصيحتي، ولا تحيدوا عن مشورتي، ولا تخالفوا رأي شيخ كبير مثلي.) قالها أبي - يا صاحبي - والدمع يذرف من آماقيه. وعاد إلى صمته الطويل.

قال لي صاحبي: وهكذا كان فقد تركتها واستمعت إلى رأي الشيخ، وأسكت نوازع الهوى، وأعرضت عن ظلال الأيام وصدى الذكريات، أرى سعادتي بين عملي وأولادي وأردد دائماً قول أبي: (وهل تستطيع المرأة البرزة أن تحبس دم الشباب الفوار عن أن يصرخ في

<<  <  ج:
ص:  >  >>