وما أنا إلا من بني الأرض نأبى ... مقيم عذابي والشقاء المحالف
وما كان هذا النوء والموج والدجى ... ليرهب نفساً حقرت ما تصادف
سواء لديها أشرق الفجر أم سجت ... غياهب في سر الدجى تتكاثف
أيجحد في الشرق النبوغ ويزدرى ... ويشقى بمصر النابهون الغطارف؟
يجوبون أفاق الحياة كأنهم ... رواحل بيد شردتها العواصف
طرائد في صحراء لا نبع واحة ... يرق ولا دان في الظل وارف
ألا إن لي قلبي طعيناً تحوطه ... عصائب تنزو من دمى ولفائف
أقلته أحنائي ذماء ولم أزل ... به في غمار الحادثات أجازف
كما رف نسر راشه السهم فارتقى ... خفوق جناح وهو بالدم نازف!
من يصدق أن صاحب هذا الشعر هو علي طه؟ ومن يصدق أن الدنيا التي ودعها وهي على شفتيه إبتسامة عريضة قد استقبلها يوماً وهي في عينيه دمعة عريضة محرقة؟ هكذا كان! وجوهر شخصيته أنه لم يخلق للدموع وإنما خلق للبسمات، ولم يخلق للقيود وإنما خلق للتحرر والانطلاق. ومفتاح شخصيته أنه كان في شبابه الأول من صنع بيئته وأنه كان في شبابه الأخير من صنع نفسه. . أي أن بيئته بالأمس كانت أقوى من إرادته فأخضعت تلك الإرادة وقررت مصيره في غمار الحياة، وأن إرادته بعد ذلك قد تغلبت على بيئته فحطمت أغلال تلك البيئة وهيأت له أن يختار مصيره برضاه!!
لقد كانت الحرية ملتقى أحلامه وحديث أمانيه، وكانت الحرية في رأيه هي ذلك النبع الفياض الذي تتطهر في مياهه الآم الجسد والروح، ولن تتطهر آلام جسده وروحه إلا إذا ظفر بشيئين: المرأة والشهرة. . وفي سبيل هذين الشيئين ظل يكافح الأمواج والأنواء طيلة ثلاثين عاماً حتى بلغ المرفأ، وحين بلغ المرفأ بزورقه المجهد بعد رحلة مضنية، استطاع أن يعب من هواء الحرية وأن يتنفس بملء رئتيه وأن يبتسم في وجه الأيام. ومن وراء هذه البسمة المشرقة راح يتطلع إلى ماضيه، ولم يملك حين اطلع على الماضي المظلم من فوق قمة الحاضر المضيء، لم يملك إلا أن ينظر إلى العمر الذي ضاع نظرة الساخر الشامت أو نظرة الظافر المنتصر! وارجع إلى قصيدته في (بحيرة كومو) لتدرك كيف كان ينظر إلى حياته فيما قبل الثلاثين: