للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وبعد أن غمرته هذه الدراسة السوداء كتب خطاباً على الصفحة الأولى من الكتاب قال فيه (إلى من يهمهم أمري: جبان من يخشى الموت، ومن لا يرحب بهذا الملك الكريم الذي هو لي كالرائحة الزكية. . . أحمد العاصي).

وتملكته فكرة الانتحار، فلم يجد عنها مصرفاً، حتى أنه كان يفكر ويمعن لا في العدول عن الانتحار ولكن في اختيار أيسر السبل إليه، وأخفها وطأة عليه. وقف على كوبري محمد علي ذات مساء ونظر إلى الأمواج، واستب أن يلتف بها، ويحتضن الموت، ولم يكد يهم بذلك حتى راجعته سيدة إفرنجية كانت تتمشى ساعتئذ خلفه، فعدل ولكنه آثر الموت عاجلاً أو آجلاً، فأوى إلى فراشه وبخع نفسه بمادة كاوية ظلت تحرق حجرة نومه من الساعة التاسعة صباحاً حتى الخامسة من اليوم التالي حيث اندلعت ألسنة الدخان من خلال النوافذ، ولم يكد المارة يقتحمون المنزل حتى رأوا هيكلاً بشرياً صار هشيماً

وهكذا آثر الموت الزؤام على الحياة الباسمة، ولقي ربه سنة ١٩٣٠. أما شعره فكان مرآة هذه النفس الجامحة الجاحمة، وهو يمهد لديوان شعره بهذه العبارة الصريحة: (ألمت بي محنة من محن الدهر ألزمتني العزلة حيناً فشعرت بحاجة حادة لأن أشغل نفسي بقول الشعر فيما شغلني من شؤون الحياة من قبل. . .) وصدر له ديوانه أمير الشعراء أحمد شوقي بك بأبيات منها:

هذا شباب السحر يلمح ماؤه ... من جدول (العاصي) ومن ديوانه

ويقول منها:

ويكاد يلمسك السرور يراعه ... وترى يد الأحزان حول بيانه

يشكو الزمان لنا، ويالك يافعا ... ناءت بميعته هموم زمانه

ولتعلمن إذا السنون تتابعت ... إن التشكي كان قبل أوانه

وهذا الشاكي الذي فارق الحياة غير آسف عليها، ولم يبلغ السابعة والعشرين، عاش نهباً للألم الدفين، واليأس اللافح، وكانت أضالعه مرجلاً للصراع العاطفي العنيف، وأبواب ديوانه صورة من ذلك كله، فثمة باب الأدب، ويشمل ما قال من شعره في عهد الاطمئنان - كما يدعي - وما هو باطمئنان وباب النقمة، ويشتمل على ما قاله في عهد المحنة والتبرم بالحياة؛ ثم باب الغزل والفخر وفيه شعر المديح وتشريح الهم؛ ثم باب للمتفرقات من الشعر

<<  <  ج:
ص:  >  >>