للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

قائلاً لا تخش سوءاً يا فتى ... هاهو المركب قد هيأت لك

سر حثيثاً لا تمانع إنما ... في غدر تثني على من أوصلك

واسع بالروح إلى المولى ولا ... تذكر الدنيا فليست منزلك

ثم يمضي: -

هاهي الحدباء قد جهزها ... لك من قبلك للموت سلك

فاشدد العزم وهيا لترى ... لذة كبرى وتحيا كملك

ثم يتخيل نفسه في وادي الموتى حيث يبعث منه برسالة إلى الأحياء فيقول:

كم أنا رافه هنا بحياتي ... وبما عندنا من اللذات

كل ما نشتهيه تحت يدينا ... ولنا ما نشاء من طيبات

هذا هو الشاعر العاصي الذي نفث في قيثارته أنفاسه، ووقع على أوتارها نبضات قلبه فجاءت ألحانه صادقة في التعبير عن وجدانه. لم يتكلف الشعر ولم يكن إلا كالسيل يندفع نحو غاية عنيفاً غاية العنف، ثم يمضي بعد ذلك كالجدول المنساب بين فحيح النيران في جوف الظلام.

نعم صدق العاصي في التعبير عن أحاسيسه ومشاعره، وبرع حقاً في اقتناص كل انفعال تردد بين جوانبه، فتصيد له الغنم المناسب، وقيده في شعره الحر الطليق، فواتاه اللفظ، وأسعفه اللحن، ودانت له القافية، فما نبا عن ذوق ولا كباقي خطاه. ولو كان للشاعر المرهف رفيق يفضي إليه بغمرات نفسه، لاستطاع أن يطرح من أثقاله، ويروح من همومه، ولكنه للأسف - كان كالضمآن في بيداء اللانهاية: حرم عطف الصديق، وحنو الشقيق. وأنس الرفيق، وجافاه الحبيب، وانطوت آماله وعكف على اللذات، وفلسف الأحزان كما أراد.

هذه الحياة كانت آفاق الشاعر العاصي وحده، لأنه اعتصرها بعيداً عن الناس واستدار حول نفسه في إطارها من الداخل. غير أنه لم يحفل بالطبيعة في كثير ولا قليل. نعم لقد عطل جميع منافذ إحساسه عن مجال الكون، وما له يرى ويسمع وهو في (كهف أفلاطون) ليس أمامه فيه إلا أشباح الفناء وقد ظنها حقائق تجسمت حتى أخذت تخايله في حياة كلها مظلم صامت. الطبيعة الحسناء، والقاهرة وضواحيها، والفجر والربيع والسماء والماء والجداول

<<  <  ج:
ص:  >  >>