والطبقات؛ ولكن عبد الحميد أحس بخطر مدحت، وفجأة أمر بنفيه إلى أوربا بتهمة الخيانة العظمى وكان إذ ذاك في حدود الخامسة والخمسين فثار الأحرار والمفكرون لهذا المآل وكثرت المظاهرات احتجاجاً على مصير مدحت فلم يطل مكثه في أوربا وأعيد إلى الشرق والياً على سوريا بينما كان عبد الحميد ينكل باتباع مدحت ويبعد عن الأستانة كل من شارك في أعمال الدستور. وكثرت الاضطرابات حتى وقعت الدولة التركية بين مطامع الإنكليز والروس وانتشر المبشرون الأوربيون في الساحل السوري وفي فلسطين. وثار مجلس النواب مطالباً بمحاكمة محمود نديم الصدر الأعظم فغضب عبد الحميد وأصدر أمره بحل المجلس النيابي وإلغاء الدستور وذلك في ١٣ شباط (فبراير) سنة ١٧٨٨م ثم أرغم على إعادته سنة ١٩٠٨م وفي فترة الثلاثين سنة بين الإلغاء والإعادة كان عبد الحميد يتربع على قمة الاستبداد فنفي كل وطني غيور، وقضي على كل ضمير حر، ولم يبقى معه إلا شرذمة من خشارة الأدنياء والمنافقين يتقلبون في المناصب بينما كانت الأمة تتدهور حالتها والبلاد العربية وبخاصة العراق - تقاسي كل ألوان الفقر. وانعدمت الحرية في كل مكان وكثر الأرصاد والجواسيس يتعقبون كل جمعية ويتابعون كل قافلة، وغصت السجون بالأبرياء وضرب نطاق من حديد على المطبوعات والصحافة والبريد.
وأخيراً أستدعي مدحت إلى المحاكمة وحوصر قصره بأزمير فسلم نفسه إلى السلطات وحوكم في قصر (يلدز) بتهمة اغتيال عبد العزيز ولم يجده الدفاع عن نفسه فنفي مكبلاً بالحديد إلى الحجاز وسجن في الطائف مع رفاقه وفي اليوم العاشر من شهر نيسان (أبريل) سنة ١٨٨٣م لقي حتفه مسموماً ودفن في الطائف وبعد دفنه أمر عبد الحميد بإحضار رأسه للتأكد من موته وكان الأمر كما أراد.
هذه الفترة العصيبة التي اشتهرت بعبد الحميد كانت مثار قلق وتذمر في البلاد العربية وكان العراق يعمل دائباً للتخلص منها والثورة على الاستبداد وكان في طليعة الثائرين أكابر الشعراء وفي طليعة هؤلاء الشعراء: الكاظمي والزهاوي والرصافي حتى انتهى الاستبداد وعاد الدستور فرحب به الشعراء مشاركين إخوانهم من الأحرار، وبعد هذا فماذا نحن واجدون في شعر هؤلاء الثلاثة حيال هذه الفترة وما بعدها؟ ذلك ما سندرسه في دواوينهم التي بين أيدينا.