إذ استطاع الكاتب أن يوقظ وجدانك؛ ويثير انفعالك، ويخلق في نفسك عاطفة نحو ما يعالج فقد أدى رسالته الفنية أبلغ أداء. وإذا قيس كتاب - الدكتور - لهذا المقياس فلا شك أنه يرجح رجحاناً كبيراً. وهو في هذا الكتاب يتناول بعض ما يطفوا على سطح المجتمع من مظاهر شائنة، وأعراض لأمراض خلقية واجتماعية وفكرية؛ ولا يزال - الدكتور - يصور لك ألوانها، ويأخذ بيدك تارة ليطوف بك في ميادينها، وتارة ليرجع بك إلى أسبابها ومنابعها؛ ثم يرسم طريق النجاة من عقابيلها؛ كل هذا وأنت مأخوذ بسحر العرض وإبداع التصوير، وإذا به يعمق شعورك بما يعرضه عليه. ويذكي يقضتك إلى هذه الألوان في محيطنا، ويغذي وعيك الاجتماعي، والفكري. وينشطه ويحيه؛ وإذا وصل بك الكاتب إلى هذا المرتقى فقد أخصب شخصيتك وأرهف حسك.
والدكتور - لم يقصد أن يجرح أشخاصا بقدر ما يهمه أن يعالج أمراضا، ويزيل عيوباً، ويحل مشاكل. فإذا أتخذ هذه الشخصية أو تلك يطلق عليها لفظ - ثعلب - ليلخص لك جوهر هذه الشخصية في هذا اللفظ الواحد الذي كأنه المصباح يضيء لك كل جوانب الشخصية. فيقول: لو رأيته قبل العشرين سنة يا سيدتي لما أنكرت منظره هذا الغريب حين يقبل متدرجاً كأنه البرمة الهائلة لم ترتفع في الجو كثيراً ولكنها اتسعت عن يمين وشمال، وامتدت من خلف وأمام. وهي تسعى مع ذلك خفيفة لا تكاد الأرض تحس لها ثقلاً لأنها من لحم وعظم، ولم تتخذ من حجر وصخر. ولو رأيته قبل عشرين سنة يا سيدتي لما أنكرت منظره هذا الغريب حين أقبل فحيا ثم تقدم يسعى حتى إذا بلغ مكانه جلس كأنه الكثيب المنهال. فكان الناظر إليه يسأل نفسه لأول وهلة: أيرى إنساناً جالساً أم يرى كومة من الرمل قد استخفى فيها شخص ضئيل لا يكاد يظهر منه إلا تقاطيع وجهه ضئيلة غائرة لولا هذا الصوت الذي يخرج منها ضئيلاً نحيلاً، ولولا هذا الشر الذي يتطاير من عينين صغيرتين لا تفتح عنهما الجفون إلا في بطأ بطيء وثقل ثقيل كأنما يشد بخيط قد ركب في