ثم تنتقل إلى فترة تلي ذلك وتصنع بها نفس الصنيع، ثم تنتقل إلى فترة ثالثة، وهكذا مل تزال تنتقل من فترة إلى فترة ومن عصر إلى عصر حتى ينتهي بها المطاف إلى مؤلفات العصر الراهن. وهي في تضاعيف كل ذلك تبين الصلات بين الآراء والنظريات، وتعقد المقارنات بين العصور والفترات.
ينبغي - في رأيي - أن يفصل الأزهر كل ذلك ليؤدي واجبه نحو كل عصر من العصور وعهد من العهود، وليؤدي أيضاً نحو نفسه، إذ ليس واحد منها أولى من ما عداه بكده وجده، بأن يستوقفه عنده ويصرفه عن غيره.
إن العلماء من غير الأزهريين لا يحقرون عهداً من العهود، ولا يزورون عصراً من العصور وإنما يعطون كلا ما هو جدير به من عناية واهتمام، حتى إنهم ليدرسون الإنسان الأول في عصور ما قبل التاريخ، ليعرفوا أسلوب تفكيره وطريقة بحثه، والموضوعات التي استرعت انتباهه فأخضعها لتفكيره وبحثه.
إنهم يفعلون ذلك مع وثوقهم بأن الإنسان الأول كان بدائيا في أسلوب تفكيره وطريقة بحثه، ولكن ذلك لم يمنعهم من أن يدرسوه ليضعوا للعقل الإنساني سجلا كاملا، نستطيع أن نتبين فيه مراحل تطوره، وعوامل نضجه، وأسباب تقدمه، ولم يمنعهم أيضا من أن يشبعوا ميولهم المتعطشة لمعرفة كل ما يمكن معرفته، ميولهم التي تحاول أن ترسم للكون والإنسان صورة أقرب ما تكون إلى الصحة والصدق، ولم يمنعهم ثالثا من أن يتوقعوا علم ما لم يكونوا يعلمون على يدي هذا الإنسان الأولى الذي كان أسبق منهم وجودا واستجلاء لمشاهد الكون، واستمتاعا بمنافعه.
إنهم يدرسون أرسطو ويترجمون كتبه إلى شتى اللغات، ويشيدون بمآثره وفضله وسبقه رغم ما أثبت العلم الحديث فساد كثير من آراءه ونظرياته. وإنهم ليقسمون الزمن إلى عصور فيقولون - العصر القديم، والعصر الوسيط، وعصر النهضة، والعصر الحديث، ويدخلون تحت كل قسم من هذه الأقسام طائفة من الأبحاث والنظريات والأشخاص، ويدرسون كل طائفة من هذه الطوائف على حدة، ويعكف بعض الدارسين على أحد هذه العصور، أو على شخصية من شخصياته أو على نظرية من نظرياته، ليتخصص فيها ويسبر غورها ونجلو غامضها، ويعكف بعض آخر على جانب آخر وهكذا حتى يتوزعوا