فسبق في صحيفة المقدور ليدرك المجد الذي أدركه يوم الفاروق وأنى لكل منهما أن يبلغ ما أراد أو ينال ما تمنى؟
هذه العاطفة الجياشة بالولاء يخطها الجارم شعراً فيقول: -
يوم غدا بين الدهور مملكا ... يوما إليه مهابة ويشار
الأمس أن تقدم خطوة ... وغداً إطار صوابه أستئخار
يوم جثا التاريخ فيه مدونا ... لله ما قد ضمت الأسفار
ثم يلتفت إلى المليك العظيم فيقول: -
يكفيه أن ينمى لأكرم سدة ... سعدت بها الأيام والأمصار
بيت له عنت الوجوه خواشعا ... كالبيت يمسح ركنه ويزار
وإن الصورة الحية الناطقة التي صور فيها التاريخ جاثياً على ركبتيه خاضعاً ذليلاً ليدون محامد هذا اليوم، ويتلو صحفاً مطهرة من أسفاره لتدل على الطبع الشعري الأصيل والخيال الواسع في الجارم الذي يرهف سمعه وحسه للحوادث فيسجلها ويعبر عنها من قلبه فلا يبدو فيها أثر الصنعة والتكلف.
وإن التورية التي تضمنتها كلمة (البيت) في البيت الأخير لمن التوريات الطريفة التي لا تنقاد إلا لشاعر ملك ناصية البلاغة وقبض على أزمة التصرف في فنون القول ليختار منها ما يهز القلوب ويبهر البلغاء، فقد لائم فيها الجارم بين خيال شعري جميل ونفحة روحية استقاها من نبع ثقافته الدينية، فالحج ركن من أركان الإسلام، والحجاج في حجهم يزورون الكعبة وهي البيت الحرام قبلة المسلمين ثم يطوفون حولها ويتمسحون ببعض أركانها خاشعين لله قد عنت وجوههم؛ متجردين إلا من لباس التقوى.
والشعراء يدونون التاريخ بلغة الشعر لأنهم لا يقرون على سرد الحوادث جافة مجردة بل يلقونها في أفواف من تلك النفحات القدسية التي آثرهم الله بها، ويرسلونها أنفاسا شعرية تلين ما جف من حوادث التاريخ.
والجارم في أبياته الآتية يسير على هذا السنن الشعري، فهو يلم فيها بما كانت عليه حال مصر قبل محمد على جد الفاروق، من ضعف وتدهور، وجهل وفوضى، ثم كيف انتعشت وتقدمت عندما تولى أمرها جد الأسرة العلوية، فضم الصفوف ووحد القوى، فبعثها من