مرقدها فهبت متحفزة متوثبة تخطب المجد وتنشد الحياة الحرة الكريمة، ثم يذيل هذه الأبيات ببيت حكمي ضمنه مقابلة طريفة حيث يقول: -
العلم يخفق للزوال سراجه ... والعدل مندك الذرا منهار
والناس في حلك الظلام يسوقهم ... نحو الفناء تخبط وعثار
فبدا (محمد كم) فهب صريعهم ... حيا كذاك البعث والإنشار
والتفت الرايات حول لوائه ... ودعا الغفاة إلى المسير فساروا
وأعاد مجد الأولين بعزمه ... إيرادها لله والإصدار
إن النفوس تضيق وهي صغيرة ... ويضيق عنها الكون وهي كبار
ووفاء الجارم الشاعر من نوع الوفاء الراكز في النفس الممزوج بغرائزها الذي لا يفارقها ولا يتخلى عنها في ساعة من ساعاتها. وهل يخرج الإنسان على طبعه الذي طبع عليه أو يحيد عن فطرته التي فطره الله عليها؟ إنه لو حاول ذلك مرة لخانته طبيعته فجاء شاذاً مقلداً، يفضحه تقليده ويدل عليه شذوذه ولا يخفى على الناس تكلفه. ووفاؤه لمليكه يلهمه في عيد ميلاده أبياتا جديرة أن تسمى بحق (شعر الولاء) عندما يؤرخ لهذا اللون من الشعر في أبواب الأدب العربي المعاصر.
ففيها يصور (الفاروق) أستاذاً يلقن دروس الوفاء، وقد اتخذ النيل منه مجلس التلميذ؛ فتعلم من المليك الوفي لبلاده الوفاء بمائة وخيراته كل عام؛ وماؤه بالفاروق أعذب مورداً من ماء الحياة، بل إن ماء الحياة أثاره من مائه: -
النيل بالفاروق أعظم مورداً ... ماء الحياة ثمالة من مائه
علمته صدق الوفاء فأصبحت ... تتحدث الدنيا بصدق وفائه
ومنحته خلق العطاء فغردت ... صداحة الوادي بفضل عطائه
يصف الجارم في بيتين بعد ذلك مليكه بأنه رجل الدين والدنيا فيأتيان بمنجاة من الزلل إذ يقول: -
الدين والأخلاق ملء جنانه ... وجلالة الأملاك ملء ردائه
يهتز في برد الشباب كأنه ... سيف يدل بمائه ومضائه
حالف الجارم التوفيق في هذين البيتين كشاعر يمدح ملكاً؛ فلم يزل كما زل شاعر المأمون