أولادي أبا وأما، أهيئ لهم حاجاتهم وأعد لهم رغباتهم، ولا أطمئن إلى قلب الخادم وهو غليظ، ولا أرضى عن يدها وهي قاسية. وأحاول جهدي أن أصرفهم عن التفكير في أمهم بالحديث والحلوى واللعب ما أستطيع، فجرفني سيل عارم من الأسى أكتمه في قلبي وأغمض جفني عن قذاه واقضي الليل ساهرا قلقا أقلب الفكر في جوانبه وأدير الرأي في نواحيه، حتى نال مني التعب وأصابني الإرهاق وبدا لعيني أن صغاري يتجرعون كأسا مريرة من اليتم والضياع حين افتقدوا الحنان والعطف. وأحسست بأن الحياة قد اضطربت وأن نظام الدار قد تشعث وأن مالي قد تبدد في غير رحمة. وأصبحت الدار في ناظري جحيما يتلظى أوارها فيكاد يلتهمني أنا وأحبائي دفعة واحدة، أو سجناً ضيقاً يقضقض عظامي وعظامهم معاً.
ولشد ما حز في نفسي أن أرى أبني الأصغر - وهو في الثانية من عمره - يدور في أنحاء الدار - ساعات طوالا - يفتش عن أمه لا يهدأ ولا يستقر وهو ينادي في لهفة وشغف: ماما. . . ماما! ثم يرتد في ذله وانكسار، وقد آلمه الإخفاق وأضناه البحث. يرتد ليلقي بنفسه بين يدي وهو ينادي بصوت باك حزين: ماما. . . ماما! ورحت أبذل غاية الجهد لأهدهد دوافع نفسه وأستغرق وسع الطاقة لأصرفه عن نوازع قلبه، فأعجزتني الحيلة، فأخذت أنظر إليه في لوعة وأسى وإن العبرات لتكاد تتطفر من محجري
وهكذا توزعتني حاجات الصغار وحاجات الدار وحاجات العمل وحاجات العيش، فتقسمتني الشواغل المتضاربة، فتفرطت عزيمتي وتبددت قوتي ولفتني الحياة في إعصار من الضيق والملل.
ووسوست لي نفسي فانطلقت إلى زوجتي في دار أبيها أطلب إليها أن تعود إلى داري لترعى شان أولادي فاستسلمت في خضوع ورضخت في استكانة.
وها أنا الآن - يا صاحبي - أعيش في صراع دائم لا يهدأ ولا يستقر، أعيش بين عدوتي الخائنة، زوجتي، وبين أحبائي الأعزاء، أولادي، لا أستطيع أن أقذف بعدوتي إلى عرض الشارع فأقتل السعادة والأمان في قلوب أحبائي، ولا أستطيع أن أصبر فأراها إلى جانبي تذكرني - أبدا - بغباوتي وحمقي.