فبقى ابن أيمن كالمشدوه من غرابة ما يسمع، ثم ذكر أن من الناس من يأكل الطين ويستطيبه لفسادٍ في طبعه، فلا يحلو السكّر في فمه وإن كان مكرراً خالص الحلاوة. ورثى أشد الرثاء لأم الغلامين أن يكون هذا الرجل الجلف قد ضارها بتلك الدميمة أو تسرّى بها عليها. فقال وما يملك نفسه: أما والله لقد كفرتَ النعمة، وغدرتَ وجحدتَ وبالغتَ في الضُّر، وإن أم هذين الغلامين لامرأة فوق النساء، إذ لم يتبين في ولديها أثر من تغير طبعها وكدر نفسها، وقد كان يسعها العذر لو جعلتهما سخنةَ عين لك، وأخرجتهما للناس في مساوئك لا في محاسنك، وما أدرى كيف لا تندّ عليك، ولا كيف صلُحت بمقدار ما فسدتَ أنت، واستقامتْ بمقدار ما التويتَ، وعجيب والله شأنكما! إنها لتغلو في كرم الأصل والعقل والمروءة والخلق، كما تغلو أنت في البهيمية والنزق والغدر وسوء المكافأة.
قال مسلم: فهو والله ما قلتُ لك، وما أحب إلا امرأة دميمة قد ذهبتْ بي كل مذهب، وأنستني كل جميلة في النساء، ولئن أخذتُ أصفها لك لما جاءت الألفاظ من القُبح والشّوهة والدمامة؛ غير إنها مع ذلك لا تجئ إلا دالة على أجمل معاني المرأة عند رُجلها في الحظوة والرضا وجمال الطبع. وانظر كيف يلتئم أن تكون الزيادة في القبح هي زيادة الحسن وزيادة في الحب، وكيف يكون اللفظ الشائه، وما فيه لنفسي إلا المعنى الجميل، وإلا الحس الصادق بهذا المعنى، وإلا الاهتزاز والطرب لهذا الحس؟
قال ابن أيمن: والله إن أراك إلا شيطاناً من الشياطين، وقد عجّل الله لك من هذه الدميمة زوجتك التي كانت لك في الجحيم، لتجتمعا معاً على تعذيب تلك الحوراء الملائكية أم هذين الصغيرين، وما أدرى كيف يتصل ما بينكما بعد هذا الذي أدخلتَ من القبح والدمامة في معاشرتها ومعايشتها، وبعد أن جعلتها لا تنظر إليك إلا بنظرتها إلى تلك. أفبهيمةٌ هي لا تعقل، أم أنت رجل ساحر، أم فيك ما ليس في الناس، أم أنا لا أفقه شيئاً؟
فضحك مسلم وقال: إن لي خبراً عجيباً: كنت أنزل (الأُبُلّة) وأنا متعيّش فحملت منها تجارة إلى البصرة فربحت، ولم أزل أحمل من هذه إلا هذه فأربح ولا أخسر، حتى كثر مالي، ثم بدا لي أن أتسع في الآفاق البعيدة لأجمع التجارة من أطرافها، وأبسط يدي للمال حيث يكثر وحيث يقلّ، وكنت في ميْعة الشباب وغُلَوائه، وأول هجمة الفتوة على الدنيا، وقلتُ: إن في ذلك خلالاً؛ فأرى الأمم في بلادها ومعايشتها، وأتقلّب في التجارة، وأجمع المال والطرائف،