للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وأفيد عظةً وعبرة، وأعلم علماً جديداً، ولعلني أصيب الزوجة التي أشتهيها وأصور لها في نفسي التصاوير، فإن أمري من أوله كان إلى علوّ فلا أريد إلا الغاية، ولا أرمي إلا للسَبَق، ولا أرضى أن أتخلف في جماعة الناس. وكأني لم أر في الأبلة ولا في البصرة امرأة بتلك التصاوير التي في نفسي، فتأخذها عيني، فتعجبني، فتصلح لي، فأتزوج بها. وطمعت أن استنزل نجماً من تلك الآفاق أحرزه في داري؛ فما زلت أرمي من بلد إلى بلد حتى دخلت (بلخ) من أجلّ مدن خراسان وأوسعها غلّة، تحمل غلّتها إلى جميع خراسان وإلى خوارزم؛ وفيها يومئذ كان عالمها وإمامها (أبو عبد الله البلخي) وكنا نعرف اسمه في البصرة؛ إذ كان قد نزلها في رحلته وأكثر الكتابة بها عن الرواة العلماء؛ فاستخفّتني إليه نزّية من شوقي إلى الوطن، كأن فيه بلدي وأهلي؛ فذهبت إلى حلْقته، وسمعته يفسر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سوداءُ ولود خيرٌ من حسناء لا تلد) فما كان الشيخ إلا في سحابة، وما كان كلامه إلا وحياً يوحى إليه. سمعت والله كلاماً لا عهد لي بمثله، وأنا من أول نشأتي أجلس إلى العلماء والأدباء وأداخلهم في فنون من المذاكرة، فما سمعت ولا قرأت مثل كلام البلخي، ولقد حفظته حتى ما تفوتني لفظة منه، وبقي هذا الكلام يعمل في نفسي عمله، ويدفعني إلى معانيه دفعاً حتى أتى عليّ ما سأحدّثك به. إن الكلمة في الذهن لتوجد الحادثة في الدنيا.

قال ابن أيمن: إطو خبرك إن شئت، ولكن اذكر لي كلام البلخي، فقد تعلّقت نفسي به.

قال سمعت أبا عبد الله يقول في تأويل ذلك الحديث: أما في لفظ الحديث فهو من معجزات بلاغة نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو من أعجب الأدب وأبرعه، ما علمت أحداً تنبه إليه؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لا يريد السوداء بخصوصها، ولكنه كنى بها عما تحت السواد، وما فوق السواد، وما هو إلى السواد من الصفات التي يتقبّحها الرجال في خلقة النساء وصورهن؛ فألطف التعبير ورقّ به، رفعاً لشأن النساء أن يصف امرأة منهن بالقبح والدمامة، وتنزيهاً لهذا الجنس الكريم، وتنزيهاً للسانه النبوي؛ كأنه صلى الله عليه وسلم يقول: إن ذِكر قبح المرأة هو في نفسه قبيح في الأدب، فإن المرأة أم أو في سبيل الأمومة؛ والجنة تحت أقدام الأمهات؛ فكيف تكون الجنة التي هي أحسن ما يُتخيّل في الحسن تحت قدمي امرأة، ثم يجوز أدباً أو عقلاً أن توصف هذه المرأة بالقبح.

أما إن الحديث كالنص على أن من كمال أدب الرجل إذا كان رجلاً ألا يصف امرأة بقبح

<<  <  ج:
ص:  >  >>