والفارق بعيد أيضاً بين فيرون وسقراط. فقد كان كاهن إيليس شكاكاً بينما كان فيلسوف أثينا مؤمناً اعتبر سقراط العلم ورده إلى العقل، ورد إليه الأخلاق. أما فيرون فقال باللاأدرية وردها إلى الحس، ورد إليها تعليق الحكم. وكان سقراط مضطهداً بينما كان فيرون محترماً. وكلاهما - مع ذلك - زهد الحياة، وبشر بتعاليم جديدة أثر الشخصية في بثها أشد وأقوى من الثورة والدعوة، وكلاهما خضع للعرف، ولم يجار العامة في ديانتهم. توسل سقراط إلى السعادة بالعلم والفضيلة، وتوسل لها فيرون باللاأدرية واللامبالاة.
وأفلاطون اتهم الحواس التي لا يملك فيرون غيرها. وأنكر أفلاطون الجزيئات وهي الموجودات عند فيرون، حقائق الأشياء هي المثل عند أفلاطون، وهي غير معروفة إطلاقاً عند فيرون. والسعادة عند أستاذ تيمون في اللامبالاة، وعند أستاذ أرسطو في الموت، وهو التطهير، الخير عند فيرون وتلميذه صريع الشر وهو عند سقراط وتلميذه متحقق في أعماق النفس تحس به.
وأرسطو يقول بالاعتدال في كل الأمور، وفيرون يقول بالتوقف والحياد، وإزاء هذا المذهب الفيروني العجيب يقف تيمون يناجي أستاذه فيقول:
(فيرون: أيها الكهل النبيل! حدثني كيف وبأي وسيلة عرفت سبيل التخلص من نير المذاهب المستعبدة، والتعاليم السفسطائية الباطلة؟ حدثني كيف حطمت قيود الباطل، والاعتقاد التقليدي. وأنت الذي لم يأل جهداً في البحث عن طبيعة الهواء الذي يحيط ببلاد اليونان، وعن طبائع الأشياء وعن غايتها التي تنتهي إليها جميعاً).
ونرى من هذا كيف أن طرافة المذهب الفيروني ترجع إلى جريان المذاهب السابقة عليه في دمه، واستحالتها إلى لون جديد انتبه له المفكرون بعد أن نصلت الأنسجة السفسطائية وبهتت ألوانها.
على أن الشك من مستلزمات الفكر الحر ومن موجبات تقدمه، فأنبياء الله ورسله داخلهم الشك، آمن إبراهيم عليه السلام بربه، ولكن لم يطمئن قلبه حتى رأى من آيات الله ما رأى، وموسى عليه سلام الله ناجى ربه:(رب أرني أنظر إليك) ومحمد عليه الصلوات قال (أنا أولى بالشك من إبراهيم) ونحن ألسنا أولى بالشك من الأنبياء؟. ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزالون تسألون عمن خلق الله، فقولوا: إن الله خالق كل شيء، وهو قبل