ومع هذا فان الرصافي لم يترك عاطفة الوفاء تتغلب على نزعته الواقعية التي كانت تهاجم الأتراك وتثور على سياستهم بين حين وآخر؛ فهذا نهر دجلة يتحدث على لسان الشاعر قائلا:
أنا باق على الوفاء وأن كان ... بقلبي ممن احب جراح
فإليهم ومنهم اليوم اشكو ... بلغيهم شكايتي بأرياح
وإذا كان لا بد أن نقف لحظة مع المنددين بمواقف الرصافي إلى جانب الأتراك فإنما نقف معهم في قصيدته يمدح بها (مصطفى كمال) عندما انتصر على اليونان سنة ١٩٢٣م أي في الوقت الذي كان يعيش فيه الرصافي تحت ظل الحكم الوطني في العراق وليست مآخذنا على الشاعر أن يمدح مصطفى كمال وهو محرر تركيا من استبداد السلاطين، ولا أن يمدحه في هذا الوقت والعراق ينتقل من استعمار إلى آخر وإنما نأخذ عليه اندفاع العاطفة في أقصى أشواطها إلى تهجين اليونان ونكران تاريخهم القديم وفضلهم على العقل البشري فيقول:
هم اليونان ألأم كل قوم ... وأخوف في الوغى من فرخ قبج
أرق سجية منهم وأرقى ... حمير الوحش سارحة بمرج
فلا تغررك أوجههم بياضا ... فان طباعهم كطباع زنج
وقد يكون عذر الشاعر أن هؤلاء الذين حاربهم مصطفى كامل هم من أوشاب اليونان.
هذا هو الرصافي في مواقفه السياسية؛ وهذا هو الرصافي الشاعر العاطفي كما عرفناه في حدود العاطفة التي لا تخضع لمقياس ولا تسير في خط واحد بل هي كصفحة الغدير تتموج في موكب النسيم وتثور في هبوب العاصفة وتهدأ حين تصفو الأجواء.
ولو أننا درسنا الرصافي في نطاق المتزمتين والسطحيين لأخرجنا الشعر عن طبيعته والشاعر عن مكانته، وليس هذا من النقد النزيه في شيء ولا من حق الشاعر في مكان.