عباده، وطوقه القلادة التي ألبسه كما كانت، فأعاد لي ما أجراه من نعمته).
ولبث ابن خلدون على ذلك أعواما ينقطع للبحث والدرس، وهو يقف بالتعريف بنفسه عند هذه المرحلة، حتى مستهل سنة سبع وتسعين (٧٩٧) في الترجمة المتداولة الملحقة بتاريخه. ولكنه يمضي في هذا التعريف مراحل أخرى، في النسخة المخطوطة التي أتينا على ذكرها؛ ويفصل حوادث حياته حتى مختتم سنة ٨٠٧، أعني قبل وفاته ببضعة أشهر. والنسخة المخطوطة أكثر تفصيلا وإسهاباً حتى فيما تتفق فيه مع النسخة المتداولة من مراحل الترجمة؛ ولهذا آثرنا الرجوع إليها إلى جانب النسخة المتداولة في كل ما هو أوفى وأتم مما تقدم ذكره من المراحل. غير أن النسخة المخطوطة ستكون منذ الآن وحدها مرجعنا فيما سيأتي من تفاصيل حياة المؤرخ حتى وفاته.
ليس في حياة ابن خلدون في هذه الفترة ما يستحق الذكر سوى سعيه إلى عقد الصلات بين البلاط القاهري وسلاطين المغرب ويجمل ابن خلدون ذكر هذه الصلات الملوكية، ويصف المراسلة والمهاداة بين صلاح الدين وبني عبد المؤمن ملوك المغرب؛ وبين الناصر قلاوون وملوك بني مرين؛ ويصف الهدايا المصرية والمغربية؛ ثم يعطف على مساعيه في عقد الصلة بين الملك الظاهر وسلطان تونس؛ وملخصها أنه كتب إلى سلطان تونس بحثه على إهداء ملك مصر، فأرسل إليه هدية من الجياد النادرة، ولكنها غرقت مع السفينة التي كانت تحمل أسرة المؤرخ كما قدمنا. ورد الملك الظاهر بإهداء سلطان تونس؛ ثم بعث سنة تسع وتسعين إلى المغرب ليشتري عدداً من الجياد، فزود ابن خلدون الرسل بالإرشاد والتوصية. ولكنهم عادوا بهدية فخمة كان سلطان تونس قد أعدها وتأخر إرسالها؛ وعدة هدايا أخرى قدمها أمراء المغرب، ومنها خيل مسومة، وعدد وسروج ذهبية. ويصف لنا ابن خلدون يوم تقديم الهدايا وعرضها ثم يقول لنا إنه شعر يومئذ بالفخر وحسن الذكر بما (تناول بين هؤلاء الملوك من السعي في الوصلة الثابتة على الأبد).
لبث ابن خلدون بعيداً عن منصب القضاء زهاء أربعة عشر عاما، يحول بينه وبين توليه، على قوله، ذلك الجناح من البلاط الذي شغب في حقه، وأغرى السلطان بعزله؛ فلما ضعف ذلك الحزب وانقرض رجاله، انتهز السلطان أول فرصة لرده إلى منصبه وكان ذلك في منتصف رمضان سنة إحدى وثمانمائة (مايو سنة ١٣٩٨م) على أثر وفاة ناصر الدين