التنسي قاضي المالكية. وكان ابن خلدون عندئذ بالفيوم يعنى بضم قمح ضيعته التي يستحقها من أوقاف المدرسة (القمحية) فاستدعاه السلطان وولاه القضاء للمرة الثانية. ثم توفي السلطان بعدئذ بقليل؛ في منتصف شوال؛ فخلفه ولده الناصر فرج، وسرى الاضطراب إلى شئون الدولة، واضطرمت الفتن والثورات المحلية حينا. فلما استقرت الأمور نوعاً، استأذن المؤرخ في السفر إلى بيت المقدس، فأذن له؛ وجال ابن خلدون في المدينة المقدسة، يتفقد آثارها الخالدة؛ وشهد المسجد الأقصى، وقبر الخليل، وآثار بيت لحم، ولكنه أبى الدخول إلى كنيسة القيامة (قبر المسيح). يقول لنا (وبناء أمم النصرانية على مكان الصليب بزعمهم، فنكرته نفسي، ونكرت الدخول إليه) ثم عاد من رحلته ووافى ركاب السلطان أثر عوده من الشام في ظاهر مصر، ودخل معه القاهرة في أواخر رمضان سنة ٨٠٢.
وفي المحرم سنة ثلاث عزل ابن خلدون من منصب القضاء للمرة الثانية. وسترى أن هذا العزل كان نتيجة لسعي منظم من خصوم المؤرخ، وأن تكراره كان مظهراً بارزاً لذلك النضال الذي كان يضطرم بينه وبين خصومه داخل البلاد وخارجه. ولم يمض قليل على ذلك حتى جاءت الأنباء بأن تيمورلنك قد انقض بجيوشه على الشام واستولى على مدينة حلب في مناظر هائلة من السفك والتخريب (ربيع الأول سنة ٨٠٣هـ - ١٤٠٠م) ثم اخترق الشام جنوبا إلى دمشق. فروعت مصر لهذه الأنباء، واضطرب البلاط أيما اضطراب، وهرع الناصر فرج بجيوشه لملاقاة الفاتح التتري ورده، واصطحب معه القضاة الأربعة وجماعة من الفقهاء والصوفية ومنهم ابن خلدون. ولا ريب أن المؤرخ لم ترقه هذه المفاجأة التي ذكرته بما عاناه بالمغرب من تلك المهام السلطانية الخطرة؛ بل هو يقول لنا صراحة أنه حاول الاعتراض والتملص، لولا أن غمره يشبك حاجب السلطان (بلين القول، وجزيل الأنعام). ويفرد المؤرخ فصلا لحوادث تلك الحملة، ويمهد له بتعريف عن نشأة التتار والسلاجقة. وكان سفر الحملة في ربيع الثاني سنة ٨٠٣، فوصلت إلى دمشق في جمادى الأولى، ونزل ابن خلدون مع جمهرة الفقهاء والعلماء في المدرسة العادلية، واشتبك جند مصر تواً مع جند الفاتح في معارك محلية ثبت فيها المصريون؛ وبدأت مفاوضات الصلح بين الفريقين. ولكن مؤامرة دبرها نفر من بطانة السلطان لخلعه