وكانت فرحة لم تتم، وبشر ذاب في موجات الأسى والحزن.
إني أذكر يا سيدي العمدة، ما قالت القابلة وقتذاك. . .؟ فانتزعنا فرج الله من بين أحضان أمه الحبيبة، وهي من الأسى ترسل الدموع سخينة حارة من أجل فرج الله، وقد ضرب بينها وبينه بحجاب، فهي لا تراه وهو لا ينعم بها. وما العمل وقد فرق المرض اللعين بين أم ووليدها!
وطفق الصغير ببكي في لوعة، وأنينه اللهيف إلى أحضان أمه الحبيبة لا تنقطع أسبابه أبداً. . لا تسألني وهو الوليد منذ ليال كيف يبكي؟ كيف يفهم أن هذه المرأة هي أمه؟ بربك لا تعجب! فهذه صلة الأرحام، وحكمة عالم الغيوب!
كان فمه الدقيق كفم الثعلب ينفرج في بطء، ويداه اللدنتان كريان البرسيم تضربان الهواء بعنف، وقدماه العاريتان تحاولان الخلاص من الغطاء السميك، وقد أحكم حول جسده خوف الزمهرير. .
كان يبكي من أجل الرضاع، من أجل ثدي أمه الرءوم، وقد انتزع منع انتزاعاً! فعلت المستحيل لأسكن من بكائه الدائم، فطرت إلى الغيط جزعاً ملهوفاً، وعدت فرحاً بقدر مملوء باللبن والحليب. وتقدمت نحوه بقلب واجف، وخطى خفيفة، ولساني يلوك الدعاء لولي بلدنا الصالح الشيخ الأتربي. إني أخشى أن يصرخ. إني أخشى من كل شئ أن يمسه بسوء، وحملته بحنان بين راحتي، وتحسست الحجاب الملتف حول عنقه الصغير، وأنا أبتهل للأولياء الصالحين ألا يبكي فيمزقني ألماً وحسرة. واحتضنته بناظري متوسلاً مشفقاً، واقتربت أصابعي بالزجاجة من فمه الصغير. لم يبك فملأني الفرح، ولبستني الشجاعة، وانسابت قطرات اللبن في فمه الصغير. . . آه يا قلبي! لقد صرخ، وضرب بيديه الهواء بعنف، فانفلتت الزجاجة من بين أصابعي، وسال اللبن على الحصير القذر، فوسدت ولدي الفراش، وتركته يائساً وأنا ملتاع النفس حزين!
- ٣ -
خرجت إلى الطريق، وقلبي أشبه بقلب كل أب، رقيق كالغصن الأخضر، صاف كعين