الديك، حنانه يحاكي حنان الأم! خرجت أتعثر في الحارات، أضرب أخماساً في أسداس، وأنا أسير تحت كابوس مفزع ثقيل الوطأة. . . رأسي أشبه بساقية تصر في نواح كئيب، قدماي من فرط الضنى تنوءان بحملي. . .
وجعلت أخبط كالأعمى في مماشي الحقول، وقد نبت فيها السريس والجلوين. رأيت جماعة من الفلاحين في ظلال وارفة تنبسط تحت شجرة جميز ضخمة، والبشر باد على محياهم، والسلام ران على قلوبهم. . . رأيتهم يأكلون مشاً وبصلا وحزمة جلوين! ولمحت إلى جانبهم ثوراً وجاموسة يلتهمان عيدان ذرة. لشد ما أتلهف اليوم إلى ذلك السلام العجيب، وقد لفع القرية بوشاح المحبة والأمن الخير. . . وأنفاس الريف الهادئة تنفث في سكانها الحياة! الشمس ساطعة، والحقول الخضر منبسطة أمامي على مدى الطرق. . .
والديكة تنبش الأرض وتصيح. . . والأوز يعوم في القنوات المعشوشبة، وأبو قردان يحط في أسرابه البيضاء على هام النخيل، يرقب عن كثب ثوراً يحرث الأرض، وصاحبه يحثه على العمل وهو صبور يغني. . . يا لله! الكل فرح راض بما قسمت له يا رب، أما أنا الحزين المهتاج فقد كدت أسقط في جدول ينساب في حقل باشا عظيم!
وأخيراً وصلت إلى امرأة عجوز صالحة، ونفضت بين يديها ما ناء يحمله قلبي. قالت لي: لا تحزن يا بني، وإني لأعجب كيف يعصر اليأس قلبك، وبركة الشيخ الأتربي تعم القرية، وتفيض على شاطئيها)!!
ثم استطردت تقول: أتعرف أم عمروس جارتنا الصالحة المؤمنة؟ اذهب إليها فهي طيبة القلب، ويداها مملوءتان بالبركة، علها تعود معك فتشفى طفلك السقيم، وخذ معك لها من (الدوار) فطيراً وبلحاً). . .
- ٤ -
وبقلب طيب خاو إلا من رحمة الله، اتخذت طريقي إلى مقام الشيخ الأتربي. وهناك توضأت من المبضأ النظيفة، وصليت لله ثم تلوت بعض الأوراد، ولم أنس أن أقبل قضبان الضريح، وأن أطوف حوله سبع مرات، وأنا أهمس بكلمات من ذوب قلبي ثم خرجت من المقام، وأنا أحس بالريف الحبيب! حقوله الخضر فسيحة كالأمل. . . يمرح فيه المساكين! هواؤه المنعش، ندى كحبات الطل، يهمس للزهور في غمرة الخريف! الدنيا كلها ترقص