فمكثت حتى إذا أوت إبلي إلى مباركها دعوته إلى العشاء فلم يدن منه، وجلس مني بمزجر الكلب، فلما ظن أني قد نمت رمقته فقال إلى عيبة له فاستخرج منها بردين، فأتزر بأحدهما وتردى بالآخر، ثم انطلق عامداً نحو الشجرة. واستبطنت الوادي فجعلت أخفي نفسي حتى إذا خفت أن يراني انبطحت، فلم أزل كذلك حتى سبقته إلى شجرات قريب من تلك الشجرة بحيث أسمع كلامهما فاستترت بهن، وإذا صاحبته عند الشجرة، فأقبل حتى كان منها غير بعيد، فقالت: اجلس؛ فو الله لكأنه لصق بالأرض، فسلم عليها وسألها عن حالها أكرم سؤال سمعت به قط وأبعده من كل ريبة. وسألته مثل مسألته، ثم أمرت جارية معها فقربت إليه طعاماً. فلما أكل وفرغ، قالت أنشدني ما قلت: فأنشدها:
علقت الهوى منها وليداً فلم يزل ... إلى اليوم ينمي حبها ويزيد
فلم يزالا يتحدثان، ما يقولان فحشاً ولاهجراً، حتى التفتت النفاقة فنظرت إلى الصبح، فودع كل واحد منهما صاحبه أحسن وداع ما سمعت به قط ثم انصرفا. فقمت فمضيت فقمت فمضيت إلى ابلي فاضطجعت وكل واحد منهما يمشي خطوة ثم يلتفت إلى صاحبه. فجاء بعدما أصبحنا فرفع برديه ثم قال: يا أخا بني تميم. حتى متى تنام؟ فقمت وتوضأت وصليت وحلبت إبلي وأعانني عليها وهو أظهر الناس سروراً، ثم دعوته إلى الغداء فتغدى، ثم قام إلى عيبة فافتتحها فإذا فيها سلاح وبردان مما كسته الملوك، فأعطاني أحدهما وقال: أما والله لو كان معي شيء ما ذخرته عنك. وحدثني حديثه وانتسب لي، فإذا هو جميل بن معمر والمرأة بثينة، وقال لي: إني قد قلت أبياتاً في منصرفي من عندها، فهل لك إن رأيتها أن ننشدها؟ قلت: نعم! فأنشدني:
وما أنس م الأشياء لا أنس قولها ... وقد قربت نفسي أمصر تريد
ثم ودعني وانصرف، فمكثت حتى أخذت الإبل مراتعها، ثم عمدت إلى دهن كان معي فدهنت به رأسي، ثم ارتديت البرد وأتيت المرأة فقلت: السلام عليكم، إني جئت أمس طالباً واليوم زائراً، أفتأذنون؟ قالت: نعم، فسمعت جويرية تقول لها: يا بثينة عليه والله برد جميل، فجعلت أثني على ضيفي وأذكر فضله. وقلت: إنه ذكرك فأحسن الذكر، فهل أنت بارزة حتى أنظر إليك؟ قالت: نعم، فلبست ثيابها ثم برزت ودعت لي بطرف. ثم قالت: يا أخا بني تميم، والله ما ثوباك هذا بمشتبهين، ودعت بعيبتها فأخرجت لي ملحقة مروية