الوجود بالتضحية والفداء والإيثار بعدما كانت تقبل عليه ملأى بالحرص مغمورة بالأثر والمنفعة وحب الذات؟!
لقد بدلت يا بني لون هذا العام الذي مر من حياتك وحياتي فهو عام كغيره محشو بالأيام كما تحشى سنابل القمح بحباتها، ولكن لون أيامه تغير وشكل لياليه تبدل فلم يعد هذا الصخب الذي مر ذكره يصل إلى مسامع البيت، ولم تعد هذه المادية تكبله بسلاسلها القاسية وتضرب حول فنائه ألف نطاق
فقد طهرته طفولتك يا ولداء وسكبت عليه من إكسيرها بلسماً يعطى منه السقيم فيبرأ ويداوي فيه العليل فيشفى
لقد أوضحت لي يا بني كثيراً من معاني الحياة، وكشفت لي جوانب من أسرارها فاستوضحتها بعد إبهام، وتبينتها بعد لبس، فلم تعد الوطنية معاني معقدة الفهم ضعيفة المدلول كما كانت في فجر الحياة، ولم تعد الحياة ملهاة قليلة الشأن بسيطة القيمة كما كانت في مطلع الشباب، ولم يعد المستقبل غموضاً وضرباً من الخيال والوهم كما كان في أبان الطفولة.
لقد علمتني يا بني كثيراً وألقيت علي دروساً ذات قيمة كما أنك هذبت نفسي وقلبي وصقلتهما صقلاً جميلاً مصقولاً!! ترتسم عليهما الصور بسهولة. ولولاك يا بني لبقي العقل ضالاً جاهلاً قدسية الأسرار العليا؛ ولبقى القلب حجراً قاسياً ما أكثر ما يحتاج إلى تهذيب.
لقد أصبح قلبي وهو مهدك خزاناً يعج بأسمى العواطف، وبركاناً يجيش بأقدس النزعات. لقد طهرته من الرجس وأزلت عن جنباته أدران الصدأ. لقد علمته أنشودة الأبوة الرقيقة الحواشي البديعة النغمات فغداً صباحه شعراً وأمسى مساؤه موسيقى.
ولو أدركت يا بني كم في نظراتك الطاهرة وحركاتك البارعة من سمو إلهام لقلبي وارتياح لخاطري ونشوة لنفسي لنطقت قبل أوان، ولعقلت قبل رشد ولأحسست قبل إحساس
لو أدركت يا بني وعلمت ما يخامر الآباء من حب وعطف وحنان حيال أطفالهم الصغار لتمنيت أول ما تتمنى ولطلبت أول ما تطلب وعياً ومعرفة ورشداً لتذوق معنى السعادة التي يسعى إلى تذوقها الضالون ويهيم في طلابها المدجلون
إن طفولتك يا بني شعر، بل هي أسمى من الشعر إنها عروس من عرائس الخيال