صراخاً يفتت الكبد ويصم الأذن، وإذا بالفتاة الجميلة تندفع صوبي هائجة تهدر، تلطمني بكلتا يديها في غيظ، وتدعني خارج الدار في عنف، وتقذفني بأقذع الشتيمة وأحط السباب.
وفزعت من أمام الفتاة الثائرة، وبين يدي الخادم المسكينة تتشبث بي وتتضرع
وقالت لي الخادم بعد أن أفرخ روعها وهدأ خوفها:(أرأيت يا سيدي السجان وهو يقسو على السجين في غلظة وفظاظة لا تأخذه به رأفة أبداً؟ أما أنا فلقد دأبت سيدتي الجميلة على أن تقضي صدر النهار في الشارع وطرفاً من الليل في اللهو، لا تسكن إلى الدار إلا ريثما تطرى نفسها وتستكمل زينتها، ثم تنطلق إلى هدف أو إلى غير هدف؛ وسيدي رجل عمل لا يستقر في البيت إلا ساعة يطير بعدها إلى عمله؛ أما أنا فقد عشت بينهما زماناً ضحية الجوع والعرى والوحدة. وضاقت نفسي بالحياة في هذا السجن الوضيع وأنا ريفية طويت عمري في الحقل أنعم بالعمل والحركة وأنشق نسمات الحرية، لا أومن بالقيد ولا أطمئن إلى غل؛ فطلبت إلى سيدتي في خضوع أن ترسلني فأسافر إلى أهلي في القرية، فرفضت. وألححت فرفضت. وحين وجدت من العناد والإصرار خشيت أن أفر من الدار فيعجزها أن تجد خادماً غيري، فغلقت الأبواب وانفلتت هي إلى غايتها. وبلغ مني اليأس غاية نفذ عندها الصبر فثرت في وجهها، ورأت في ثورتي معاني التبجح وسوء الأدب فأمسكتني بيد من حديد وراحت تكويني بحديده محماة وإن عينيها لتضطرمان بنار القسوة والفظاظة، وأنا أتلوى وأبكي وأتضرع ولكن إنسانيتها كانت قد غابت فبدت فيها حيوانية جارفة تفترس بالناب والظفر ثم لا تهدأ إلا أن تلغ في الدم).
قالت الخادم كلماتها من خلال عبرات تتدفق أسى ويأساً، ثم كشفت عن ذراع مزقتها كيات النار التي لا تعرف الرحمة، أوحى بها قلب خلا من الرحمة والشفقة والإنسانية جميعاً.
وعجبت أن يكون هذا الجمال الفتان ستاراً يواري خلفه قلباً لا ينبض بالرأفة، وروحاً لا تخفق بالحنان، ونفساً لا تنضم إلا على الوحشية والافتراس.
ولكن، لا عجب - يا صاحبي - فإن الإنسانية حين تتهاوى تسفل فتتضع فتنحط إلى أوضع مراتب الحيوانية!