(وصديقي الأستاذ عباس خضر يرى كما أرى أن هذه الحواشي ومماحكاتها هي التي أفسدت البلاغة. وإذا كان في الإيضاح بعض المماحكات فإنه مع هذا خير ما ألف في البلاغة بعد كتابي عبد القاهر - دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة - لأنه يجرى غالباً في طريقهما، وإن كان متأثرا بطريق السكاكي في تبويب علوم البلاغة وتقسيمها، وقد عنيت في شرحي له بمجاراته في طريق عبد القاهر، واختيار ما هو من صميم البلاغة في تلك الحواشي، وإهمال مماحكاتها اللفظية، مع التنبيه على ما في الإيضاح من هذه المماحكات)
فأنا وإن كنت أشارك الأستاذ في هذا القدر الضئيل من الرأي إلا أنني أذهب إلى أبعد كثيراً مما يرى. . فأنا أعرف الإيضاح وأعرف أن مؤلفه صاحب (التلخيص) بؤرة إفساد البلاغة العربية بشروحه وحواشيه، وأعرف جناية هذه الكتب - سواء مماحكاتها اللفظية وما يسميه الأستاذ صميم البلاغة - على الملكة البيانية العربية، وليكن الإيضاح جارياً في طريق دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة في الغالب أو في غير الغالب، فهل نتخذ بلاغة عبد القاهر نبراساً يضيء زيته في عصر الكهرباء؟ أني أعلم أن أنوفاً ترعد من هذا الكلام. . ولكن مهلاً لقد كان لعبد القهر فضله التاريخي الذي لا يجحد. كان أول مؤلف مزج النقد الأدبي بالقواعد العلمية وكان صاحب ذوق أدبي في علمه. فجاء مؤلفون من بعده مجردون من ذلك الذوق، فجعلوا البلاغة علما جافاً ومجالاً لأفساد الملكة الأدبية بالجدل العقيم والفكر المعقد السقيم. ولا نزال إلى الآن نعاني أعباء هذه التركة وان كان الأزهر يحمل أقدح أثقالها، لأن رجال التعليم في وزارة المعارف خففوا منها بالتأليف العصري أولاً ثم بتعديل مناهجها إلى نواحي أشبه بالنقد والدراسة الأدبية، ولأن بعض أساتذة الجامعة أو هو أستاذ واحد (الأستاذ أمين الخولي) توجه بها إلى وجهة أدبية نفسية تطابق الدراسات الحديثة. ولعل الأستاذ عبد المتعال الصعيدي يشير إلى هذه الاتجاهات بقوله في مقدمة كتاب (دراسة كتاب في البلاغة) يصف صنيع الشيخ خفاجي (بل خرج على تقليد عصرنا الذي أحيا دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة بعد أن أماتتهما الطريقة التقريرية، وكان لإحيائهما أثر صالح في تهذيب دراسة علوم البلاغة، ظهر أولاً في غير بيئتنا الأزهرية، ثم أخذ يغزو بيئتنا ويوجهها إلى الإصلاح شيئاً فشيئاً)
وعلى ذلك نرى أننا نعود إلى طريقة عبد القاهر بأن (نؤدب) علوم البلاغة، أي نصغها