ولا أكاد أغادر الطائرة حتى أرى رجلاً يسارع إلى مكانها في جذل ولم أشك في أنه يستقبل بعض القادمين؛ وكلما لاحت مني التفاتة خيل إلي أنه يراقبني؛ وتتملكني حيرة. . . وتشتد حيرتي حين أتحقق أنه يقبل علي وما أكاد أقترب من بناء المطار حتى يحيني باسمي ثم يصافحني ويحمل عني حافظة أوراقي وبعض كتب وصحف!! إنه صاحب بوفيه المطار وهو لم يرني منذ ثماني سنين وما زال يذكرني كأنما هي أيام.
وعند هذا، تلقى الوفاء وأمثاله فقلوبهم تتلقى الجميل الصغير بمجهر فيرفعه إلى صنيع عظيم يثبت فيه مرآتها وتعكسه على قدر هذه الصورة جزاء عليه. وهذا هو عنوان للشعب الكريم كما صاغه الرحمن في الوادي المبارك. وما يتطرق الخلل إلى الأخلاق إلا من حتى تأتي المثل السيئة من المسيطرين والظاهرين فتعود إلى الفساد تدريجاً ثم يتفاعل في أحضان الزمن فيصبح تهلكة. فعند هؤلاء تجد العزاء بقدر ما تجد البرهان الذي يدرك إلى أناتك فلا تفزع إن الخير باق وهو على المستقبل ظاهر.
وفي الصباح الباكر رافقني صديق قديم إلى الشاطئ الجميل. وهو أجمل شاطئ رأيت فيما زرت من بلاد الدنيا! بل قل انه اجتذبنا واقتادنا. ورحم الله شوقي إذ يقول: -
ألين إذا قاد الجمال أعنتي ... وأعنوا إذا أقتاد الجميل عنابى
وجلسنا نستمتع بالهواء وبالمنظر وبالذكريات. فعين إلى الحاضر وأخرى إلى الماضي، لا نذهب في هذا الأخير خببا بل مترفقين. ومتى هدأت أعصاب المرء شمله الرفق، والرفق يولد النظام. وأول ما يتحكم في هذا أتساق داخل المرء من قلب وفكر، وبهما تتناسق أمواج الحياة.
كان الوقت باكراً، والموسم لم يبدأ بعد، فلم يكن بالشاطئ إلا قليل من مرتاديه، وجلهم أهل البلد. وبينما نتناول القهوة إذا بالرفيق يقول:(أنظر! أتعرف من القادم؟) والقادم على بعد. قلت: لا، ولكني أراها (هرولة صديق)! قال يا أخي أنك لا تتبين من ملاحمه شيئاً؟ قلت لعله القياس. ألم يذكر أناتول فرانس مرة عن البرنسيس تريبوف قولها لزوجها (أنظر إن هذا ظهر فرنسي) وذلك بين ازدحام الهواة والمتفرجين في قاعة لبيع اللوحات الفنية. ثم كان هو ظهر أناتول فرانس، وقد كان الزوجان من خلفه وعلى بعد ليس باليسير؟ وكانت