قال الصديق (أما زلت على شغفك بهذا الكاتب؟ لقد مضت سنوات لم أسمع ما تكشف من ثنايا عباراته، وما تحاول جمعه مما ينثر بين كتاب وآخر! (قلت لندع فرانس اليوم ولأقل لك إن للبصيرة كما للبصر مدى) ولم يطل الحوار، فقد حسن ختامه بيد تمتد سلاماً ووجه يشرق بشراً! هذا زميل في الدراسة الثانوية يشغل اليوم عملاً ذا خطر، وقد جاء يقضي أياماً في هذا البلد الكريم، وله برفيقي سابقة معرفة، وهو من القلائل الذين يحفظون الوداد، ويحرصون على صلات الماضي.
شاركنا القهوة، وعددنا هذا اللقاء غنماً كبيراً. وقلنا إنه الشاطئ الذي أحببنا، يسارع بالجزاء فيضعف إلى ارفاده رفداً، بل هو يضع لهذه الزورة القصيرة طابعاً وتاريخاً.
وللصديق أ. ز. غرام بالشعر صاحبه منذ حداثته، يتخير جيده ويحرص على جمعه وحفظه، كأنما يرى في هذا براً بالماضي، كالذي يرى في صون عشرته وزمالته وتعهده رفاق الدراسة بالسؤال عنهم والتقصي! والأدب مروءة، والمروءة لباب الأدب.
وكذلك لم يكن بد من تطور الحديث إلى هذه الناحية، وكأنما هي الصورة الجامعة لثلاثتنا وهي أقرب الصور إلى ما حولنا، فزرقة البحر ودقة الرمال ورقة الهواء وهذا اللقاء قصيدة عصماء. ولقد صدق المرحوم عبد الرحمن حامد بك الشاعر التركي حين قال إن الطبيعة أول كتاب أو أول قصيدة.
وسارعت الساعات إلى انطواء بسحر هذا الحديث، وإذا (بالصديق المهرول) يفاجئني متسائلاً: هل نفذت العهد؟ دهشت وقلت: ذكرني يا صديقي أي عهد؟ قال عهد صديقك أحمد توفيق الشاعر الشاب الذي. . . فاستوقفت التعريفات الدافقة وقلت لن تزيدني علماً بمن تذكر، فإنني أعرف عنه أكثر من غيري، وتربطني به وبأسرته أكثر من وشيجة، ولكن قل لي شيئا عن ذلك العهد فقد كدت تفجعني في وفائي كما فجعتني فيه المنايا!! قال: ألا تذكر قصيدته إليك سنة ١٩١٦ والتي خاطبك فيها.
ضاع الرجاء فكن بحيث رجائي ... وأحمل على حسن الوفاء وفائي
قلت: بلى يا صديقي، وكانت كتاباً ما زلت أحتفظ به. وفيها ما يسري مسرى الأمثال، وكثيراً ما استشهدت ببعض أبياتها.