ويستهجنه، إذ لا يذكر أنه حصل طوال حياته على ما كفيه من مأكل وملبس، ولا يذكر أن أثاثه كان متهافتاً وبيته كان متداعياً. ولكن أنى للإنسان أن يظهر إمارات السخط أو الشك لأن ذلك هو الجريمة بعينها. وراح ونستون يتجول في أحياء الطبقة الكادحة حتى وصل أخيراً إلى الحانوت الذي أشترى منه فيما مضى الدفتر ذا الغلاف الأحمر. وأراه هنا صاحب الحانوت قطعة من الزجاج ركب جوفها فص من المرجان، ويرجع تاريخها إلى مائة سنة خلت. ويملك بونستون إعجابه بها، لا لأنها جميلة فحسب، بل لأنها تنتمي إلى عصر غير العصر البغيض الذي يعيش فيه. ثم قاده صاحب الحانوت إلى غرفة مريحة في طابق علوي فتمنى ونستون لو كان يستطيع أن يستأجرها منه، ويعيش فيها هادئاً مستريحاً عن صوت التلسكرين المقيت، ولكن أين منه ذلك والرقابة منتشرة في البلاد طولاً وعرضاً!
هذا وصف موجز للحياة اليومية كما يتخيلها المؤلف سائدة عام ١٩٨٤. وأما أفكاره هذه فيختلف وقعها على القراء بحسب بيئاتهم. فقد تبدو للأمريكيين مجرد وهم وخيال لأنه يشق عليهم أن يؤمنوا بدكتاتور كالأخ الكبير يتعطش للسلطة، وبحكومة يسارية فظيعة ما داموا قد تعودوا استطابه العيش في ظلال الحرية. أما خارج أمريكا فقد تكون رسالة المؤلف أعمق أثراً وأبلغ فهماً، فالإيطاليون الذين عاصروا موسوليني وهو يلقن الأولاد الصغار دروساً في القسوة الوحشية لن يدهشهم أن يروا الصبية الذين لا تتجاوز أعمارهم السابعة يمارسون التجسس على يد الأخ الكبير. وإذا تسنى لهذا الكتاب أن يتجاوز الحدود الى ما وراء الستار الحديدي فلن يبدو فيه العالم الرهيب غريبا وخيالياً، لأن الصورة التي رسمها المؤلف له مبنية على الدرس الدقيق لمستقبل الاشتراكية إذا أطرد سيرها على منواله الحالي.
أما أهمية الكتاب فليس في تخيلاته وطرافته، وإنما هي في منطقة المر القاسي، لأن المؤلف يحذر فيه الناس من القوى المهددة لعالمنا إذا نشطت هذه القوى حتى تبلغ بنا إلى نهاية المحتومة.
ولربما تحمل هذه الأفكار بعض الناس على الظن أن المؤلف قصد أن يقول: - (إن الناس أشرار بطبعهم، وليس هناك من أمل يرجى في صلاح البشرية ما دامت على هذا الحال)