للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ويجارون به، يستثمرون ما يعافه الوادعون، ويحلو لهم ما يمر على مذاق الخانعين، يصمدون للإحن لا يهنون، وللنكبات لا يريمون، ثم إذا هم باخرة قد اجتمع الناس لهم على الرأي الذي كافحوا له وغالبوا.

وكذلك كانت حياة ابن تيمية، سعى به بيبرس الجاشنكيز، فضمه السجن أعوام فما استكان، وكأنه ما خرج منه إلا ليعود إليه ثانية وثالثة، وهو هو إلى أن مات رحمة الله سنة ٧٢٨ هـ وإذا الألسن كلها ثناء، وإذا ما كتب وألف متنه الأعين، وإذا ما رأى حديث المجالس.

جلست إلى أبن تيميه وهو آخذ بخناق المنطقيين في كتابه (الرد على المنطقيين) يبادلهم بالرأي رأياً، وبالحجة حجة، فآنست بالرجل عقله وتفكيره، وما كنت أعرف قبل ذلك أن أبن تيميه يقوى لأر سطو فيوهن من مقاييسه ويضعف من أدلته.

وأنت إذا استمعت إلى ابن نديم في الفهرست حفظت عنه كتب أر سطو الثمانية في المنطق وهي، المقولات، والعبارة، وتحليل القياس، والبرهان، والجدل، والمغالطون، والخطابة، والشعر. ثم إذا جريت معه قليلاً عرفت من ترجم هذه الكتب إلى العربية ومتى نقلت.

وتعجب حين لقى جمهرة من المفسرين والمحدثين والفقهاء كتاب المنطق لأر سطو في حذر، وكادوا ينسبون من نظر فيه إلى الزندقة. ولن ننسى رسالة السيوطي جلال الدين في تحريم علو المنطق، ثم لا ننس تلك الحرب الصاخبة التي حمى أوارها بين المنقولين والمعقولين والتي خرج منها علماء المعقول زنادقة ملحدين.

وعز على صفوة من المفكرين أن ينتهي الخلاف بين النقليين والعقليين عند هذا فشمروا للتوفيق بين الرأيين. مؤولين ما استطاعوا إلى التأويل سبيلاً، متخففين من أقوال الحكماء ما لا يجد دليله من كتاب أو سنة، فمنهم من أبعد ومنهم من قارب. وقد كانت محاولات أدلى فيها بالدلو إخوان الصفا ومن لف لفهم كالباطنية والإسماعيلية. وإذا ذكرنا الإسماعيلية ذكرنا ابن سينا الذي تربى في حجورهم وغذوه بتعاليمهم وكان له جولة في هذا الميدان كان فيها كالظل لأر سطو.

وتمخضت الأيام عن شيخ من شيوخ الإسلام نشأ والباطنية في عنفوانها فجال في هذا الميدان جولات على نهج من التوفيق والجمع بين الرأيين، أسلم مغبة وأقرب إلى أنصاف أهل السنة وإرضاء المتدينين، وكان هذا الشيخ الحجة أبا حامد الغزالي.

<<  <  ج:
ص:  >  >>