واقترب منها فوضع يده على كتفها؛ ورفعت إليه عينين مخضّلتين بالدموع، واندفع في غير رفق يصب عليها جام غضبه، ويوجه إليها قارص اللوم وعنيف العتاب؛ وراحت تعتذر في كبرياء جريح، وراح يحملها تبعة ما يخشاه؛ يخشى أن يفقد صديقه أكثر مما يخشى أن تفقد زوجها. . . ثم ترك القدر في غليان.
والتقى الصديقان، وقص إبراهيم على صديقه ما سمع وما رأى. . . وجلست زينب تصارع اليأس بالإيمان، وتغالب الحزن بالأمل. ومر يومان ولم يعد إبراهيم إلى التحدث معها في شأن زوجها، ولم يعد نجيب. وغلبها الهم واليأس، واستسلمت للمقادير مؤمنة بأنها إنما تلقى جزاءها العادل. وجاء يوم الجمعة ثالثاً وعاد إبراهيم من الصلاة ومعه ضيف. لقد عاد نجيب بعد طول الغياب!
وجلسوا حول المائدة يتداعون إلى شهي الطعام، ويتبادلون بين اللقيمات كلمات قصيرة عذبة. ثم انفضوا عن المائدة يسمرون، إلا نجيباً وزينب؛ لقد ظلا صامتين، ولكن ضمائرهما كانت تتناجى في حديث خافت، وخواطرهما تفترق وتتلاقى.
وفي اليوم التالي حين عادت زينب إلى عشها المهجور كانت أسعد منها يوم قدمت إلى هذا البيت أول مرة عروساً متوجة بالزهر مودعة بالزغاريد. ورأت كريمة (أمها) فأسرعت تسلم عليها في لهفة وشوق، وعلى فمها ابتسامة، وفي نظراتها بشر وفرح وترحيب. وهرول إليها صلاح يتعلق بذراعها ويجذبها إلى الخلف كأنما يخشى أن تهجره ثانية إلى غير لقاء.
لقد استوحش الطفلان لغيبة زينب، فنسيا كل ما كان من قسوتها، لأن قلوب الصغار طاهرة بريئة، لا تمسك العداوة، ولا تذكر السيئة، ودنياها يومها المتجدد. وكأنما أحس الولدان إن المصيبة إن كانت في فقد الأم، فتمامها أن يفقدا شبه الأم!.
ورأت زينب في ترحيب الصغيرين معنى لم تحسه من قبل، وتحركت فيها الأمومة، وتزاحمت في رأسها إحساسات شتى: من الندم، ومن الحب، ومن التأثر بهذا الوفاء. وطفرت من عينيها قطرتان من الدمع تلهبان خديها بأقسى مما يلذع صدرها الندم. واقتربت منها كريمة وعلى شفتيها تساؤل مشفق:
- أمي، أنت تبكين؟ لا يا أمي، لا تبكي لا تبكي. ودفنت رأسها في صدر زينب مختنقة