للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

كانوا سيوفي إذا نازلت حادثة ... وجنتي حين ألقي الخطب عريانا

وختم تلك القصيدة الباكية بالدعاء لهم، فقال:

سقى ثرى أودعوه رحمة ملأت ... مثوى قبورهم روحاً وريحانا

وألبس الله هاتيك العظام وإن ... يلين تحت الثرى عفواً وغفرانا

ولما علت سن أسامة ووهن منه العظم، أخذ يشكو طول العمر، وثقل الحياة عليه، فحيناً يجد في الموت أعظم راحة تنقذه من ضعفه، وحيناً تنهال عليه ذكريات شبابه وصباه، ويوازن بين ضعفه اليوم، وقوته في عهده السالف، فقد كانت كفه مألفاً للسيف والرمح، فصارت تحمل العصا، يمشي بها كما يمشي الأسير مثقلاً بالكبل، وحيناً يأسف على أنه لم ينل في شبيبته من المتع والملاذ، ما كان جديراً أن يظفر به في عصر الشباب، إذ يقول:

وما ساء ني أن أحال الزما ... ن ليلي نهاراً، وجهلي وقارا

ولكن يقولون: عصر الشبا ... ب يكون لكل سرور قرارا

فوجدي أني فارقته ... ولم أبل ما يزعمون اختبارا

ومن أكبر ما أثر فيه يومئذ أنه رزق ابنة، بعد أن تجاوز أربعاً وسبعين سنة، فوجد اليتم ينتظرها، وكان تفكيره في يتمها وضعفها مجلبة لحزنه وبكائه:

رزقت فروة، والسبعون تخبرها ... أن سوف تيتم عن قرب وتنعاني

وهي الضعيفة، ما تنفك كآسفة ... ذليلة تمتري دمعي وأحزاني

وصور لنا أسامة نفسه محنياً على عصاه، قد تقوس ظهره، وصارت العصا وتراً لهذا القوس، يمشي مشي الحسير، قد آده ثقل السنين، فهو يمشي كالمقيد بعثاره، أو كالأسير في قيده، فلا جرم كان شديد الضيق والبرم، حين يرى نفسه عاجزاً عن تلبيته داعي الحرب إذا دعاه:

رجلاي والسبعون قد أوهنا ... قواي عن سعيي إلى الحرب

وكنت إن ثوب داعي الوغى ... لبيته بالطعن والضرب

وكان شديد الضيق والبرم أيضاً حين يرى نفسه وحيداً، قد مضت لداته وأترابه، فعاش غريباً في جيل غريب عنه، فكان يتأوه قائلاً:

ناء عن الأهلين والأو ... طان، والأتراب ماتوا

<<  <  ج:
ص:  >  >>