للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ويظهر أن الفقر قد عضه بنابه حيناً من الدهر، حتى رأيناه يصف نفسه بأنه لا يفترق في حقيقة الأمر عن سائليه الذين يهرعون إليه، ظانين فيه الغنى واليسار.

ولكن مستوري كظاهر حالهم ... فما حيلتي، والحظ حرب الفضائل

وكان أكبر ما يؤلمه في حالة العسرة التي ألمت به، هو أن شمت به أعداؤه، فأخذ يطمئن نفسه بأن سوف يستعيد مع الأيام ماله المفقود، وحيناً يقول لهم:

متى رآني الشامتون ضرعا ... لنكبة تعرقني عرق المدى

هل بزني الخطب سوى وقري الذي ... كان مباحاً للنوال والندى

فإذا نزلت كارثة زلزال شيزر، فذهبت بملك أهله وبأهله، أخذ يبكيهم، ويندب حظهم، ويرثي منازلهم، ويسأل الزمن عن ماضي مجدهم ويتألم لبقائه من بعدهم، ويمدح ما اتصفوا به من سامي الخلال، وطيب الفعال، وبرغم ما كان بينه وبينهم من إحن وبغضاء، عز عليه فقدهم، وتمنى أن لو استمرت الحياة، واستمر ما بينه وبينهم من فرقة ونفور، فقد كانوا برغم ذلك مصدر فخاره، وينبوعاً لقوته واعتزازه؛ قال أسامة من قصيدة طويلة يصف فيها هذا الخطب، كيف كان له شديد الوقع في نفسه، فهو يتطلب الأسى، فلا يجد أسوة يقتدي بها:

قالوا: تأس، وما قالوا بمن، إذا ... أفرددت بالرزء، وما أنفك أسوانا

ما استدرج الموت قومي في هلاكهم ... ولا تحرمهم مثنى ووحدانا

فكنت اصبر عنهم صبر محتسب ... وأحمل الخطب فيهم عز أوهانا

وأقتدي بالورى قبلي، فكم فقدوا ... أخا، وكم فارقوا أهلاً وجيرانا

ويدفع عن نفسه أن يظن به ظان وقوفه من هذه الكارثة وقوف من لا يعني بها، ولا يأبه لها، فيقول:

لعل من يعرف الأمر الذي بعدت ... بعد التصاقب من جرأة دارانا

يقول بالظن إذ يدرسا خلقي ... ولا محافظتي من حان أو بانا:

أسامة لم يسؤه فقد معشره ... كم أوغروا صدره غيظاً وأضغانا

وما درى أن في قلبي لفقدهم ... ناراً تلظي، وفي الأجفان طوفانا

بنو أبي، وبنو عمي، دمي دمهم ... وإن، أروني مناوأة وشأنا

<<  <  ج:
ص:  >  >>