فإذا ذكرتك خلت أني شارب ... تمل سقاه من المدامة ساق
ولعل والده رأى هذه القصيدة غير مبينة عما يضمره قلبه لولده، من لاعج الشوق، فقام أحد مؤدبي أسامة بنظم قصيدة أرسلها إليه، يصف فيها حال هذا الوالد المعذب.
ولما شتت أخوته في البلاد، كانت رسائله إليهم تفيض بالحب وشكوى الفراق، فإذا عتب عليه أحدهم، تقبل عتبة بالعتبى، وصادق الحب والمودة. وحدث أن أخاه محمداً أسره الفرنج، وهو راحل من مصر عقب حركة عباس وابنه نصر فلم يمنعه ما كان بينه وبين ابن عمه بشيزر من صلة مقطوعة، وأن يكتب إليه مستعيناً به على فك أسر أخيه، مبدياً أرق ألوان الاستعطاف، إذ يقول من قصيدة:
أنا ابن عمك، فاجعلني بفك أخي ... من أسره، لك عبداً ما مشت قدمي
ولكن ابن عمه لم يتأثر بالشعر، ولم يسع في فكاك أخيه. أما صلته بعمه حاكم شيزر وابن عمه، فظهر أنه حاول جاهداً الإبقاء على الصلة التي تربط بهما، وبذل في سبيل ذلك ما استطاع أن يبذل من عنت ومشقة. ولعل خير ما يصوره موقفه في تلك الفترة قوله:
وما أشكو تلون أهل ودي ... ولو أجدت شكيتهم شكوت
مللت عتابهم، ويئست منهم ... فما أرجوهم فيما رجوت
إذا أدمت قوارصهم فؤادي ... كظمت على أذاهم، وانطويت
ورحت عليهم طلق المحيا ... كأني ما سمعت، ولا رأيت
تجنوا لي ذنوباً ما جنتها ... يداي، ولا أمرت، ولا نهيت
ولا والله، ما أضمرت غدراً ... كما قد أظهروه، ولا نويت
ويوم الحشر موعدنا، وتبدو ... صحيفة ما جنوه وما جنيت
وبعد وفاة عمه حاول أسامة أن يصلح ما بينه وبين ابن عمه، وأن يعطفه عليه، ويلين قلبه، ولكن يبدو أن هذا الجهد لم يؤت ثمرته، فظلت النفرة بين أسامة وأهله، حتى مضى زلزال (شيزر) بهم، فبكاهم أسامة كما ذكرنا، وكل هذا يدلنا على ما امتازت به نفس أسامة من حب يضمره لأقاربه، ورغبة خالصة في أن يعيش بينهم يظللهم جميعاً الود والوئام، لو استطاع إلى ذلك سبيلاً، ولا ذنب عليه إذا هو أخفق في جهد كان جديراً به أن ينجح، وأكاد ألمس في شعره أنه لم يسع يوماً إلى فصم عروة مودة بينه وبين قريب أو صديق.