بسقراط يرمي أول سهم في هذا الميدان ويعلق تلك الحكمة الخالدة (أعرف نفسك) التي كان قد قرأها على باب معبد (دلف) وعندما سئل عن مبلغ علمه قال (كل ما أعرف هو أني لا أعرف)
وهذا من غير شك بدء طبيعي؛ لأن العارف لا يعرف وإنما سقراط (نبي غير رسمي) أراد أن يبشر برسالة الفكر فحطم كبرياء السفسطائيين وغرورهم وتعاليهم، فهو يعلن أنه لا يعلم شيئا لأنه عالم أما هم فيدعون علم كل شيء لأنهم جهال.
وبلاد اليونان جبال بينها شعاب تقوم فيها مدن منفصل بعضها عن بعض ومنذ ابتليت بالغزو الفارسي ذاعت فيها الفوضى من كل لون. فلما تعمق أثر هذا الجرح السياسي في خواطر المفكرين الأحرار، وضح سبيل الخلاص، وإذا بسقراط (المعلم) الأول يتحدث ويعلم ويمشي في الأسواق ويرتاد النوادي لينشر دعوته مؤمنا بسلاحه القوي وهو العقل فيتفلسف. وأول ما يتفلسف يقيم هيكلا فكرياً للعقل يسميه الفلاسفة (نظرية المعرفة) ويسير على نهجه من بعده أفلاطون وأرسطو، ويكمل اللاحق، منهم ما لم يتح للسابق.
ومن أجل هذا ترى دائما (نظرية السياسة) آخر حلقة من حلقات الفلسفة اليونانية، وقد سبقتها سلسلة طويلة عريضة من تمهيدات فكرية في الطبيعة والنفس والأخلاق).
والسياسة عند اليونان هي غاية الإصلاح، أما العقل فهو نقطة البدء والغاية هي التي تحفز على الحركة، وتبعث على العمل.
وكان أفلاطون أكثر تحمساً للإصلاح، وأغزر إنتاجا في مجاله، فقد رسم في (الجمهورية) رسما تخطيطياً بارعا للمجتمع اليوناني، وذلك بعد عرض لنظرية (المثل) التي محور ارتكازها العقل، والتي توحي بأسبقية الميزان على الموزون، وضرورة (القيمة) في (الحكم).
وليس أدل على نمو هذا الاتجاه، وصدق النية فيه، من إصلاح الفكر الذي نادى به أرسطو إذ وضع (آلة) لعصمة الفكر من الوقوع في الخطأ، وحرص على أن يكون (المنطق) وهو علم هذه الآلة مدخلا لكل علم، وأساسا لكل تفكير.
وما إن انحدرت البشرية إلى هاويتها السحيقة حتى انتشلتها الرسالات تباعاً، ونهضت بها إلى درجات السمو، فلما غفلت عنها أوربا المتخبطة في دياجير الظلم والظلام، عنت نفس