كثرة الأكل تزيل الرقة وتورث القسوة والسبعية. ولكن ينبغي أن يكون تقليل الغذاء إلى حد يوجب جوعاً قليلا، فإن الجوع المفرط يورث ضعف الأعضاء الرئيسية واضطرابها واختلال قواها، وذلك يقتضي تشويش النفس واضطراب الفكر واختلال العقل ولذلك تعرض الأخلاط السوداوية لمن أفرط عليه الجوع، فإذن لابد من إصلاح أمر الغذاء بأن يكون قليل الكمية كثير الكيفية فتؤثر قلة كميته في أنه لا يشغل النفس بتدبير الهضم عن التوجه إلى الجهة العالية الروحانية، وتؤثره كثيرة كيفيته في تدارك الخلل الحاصل من قلة الكمية. ويحبب أن يكون الغذاء شديد الإملاء للأعضاء الرئيسية لأنها هي المهمة من أعضاء البدن، وما دامت باقية على كمال حالها لا يظهر كثير خلل من ضعف غيرها من الأعضاء.
وأعلم أن الرياضة والجوع هي أمر يحتاج إليه المزيد الذي هو يعد في طريق السلوك إلى الله، فإن كان انقطاع الغذاء يسيراً وإلى حد ليس بمفرط لم يضر ذلك بالبدن كل الأضرار وكان ذلك غاية الرياضة التي أشار إليها أمير المؤمنين علي (ع) بقوله (حتى دق جليلة ولطف غليظه) وإن أفرط وقع الحيف والأحجاف وعطب البدن ووقع صاحبه في الدق والذبول وذلك منهي عنه لأنه قتل النفس، فهو كمن يقتل نفسه بالسيف والسكين) هذا ما شرح به عبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلي لكلام الأمام (ع) وقد زانته الثقافة الإسلامية في ذلك العهد أي آخر حكم العباسيين وقد شهد الشارح سقوط بغداد بيد التتار وكانت العلوم التي نقلت إلى العربية في صدر الدولة العباسية قلما ينعت وازدهرت ثمارها في أواخرها وذلك في عهد ابن أبي الحديد ومعاصره نصير الدين الطوسي
ولقد وجدت من المتعارف في العراق في رمضان (وأظنه في باقي الأقطار الإسلامية أيضاً) أن يكثر الصائمون نهاراً الأكل ليلا فإذا وفد هذا الشهر على المدينة وفدت معه أفنين الأطعمة وأنواعها وتفننت المطابخ في تنويع الأكلات حتى انقلب شهر الصوم والجوع إلى فترة نهم وتخمة وقد سألت مرة أستاذي في (الكيمياء الحيوية) في كلية الطب العراقية (المستر هوكنز) عن رأيه في الصوم فاثني عليه من الوجهة الصحية والتهذيبية غير أنه انتقد المسلمين لإفراطهم في الأكل ليلا مما يتعب الجهاز الهضمي. ولا ريب أنه مصيب فإن للأمعاء قابلية محدودة في استيعاب الأغذية بحيث تتاح لعصاراتها الهضمية فرصة