خلق ليتنعم ولم يمنح العقل إلا ليبحث له عن وسائل النعيم وطرقه، فهو لذلك يعب اللذائذ عبا ويكرع من مجرها بإفراط، وينهمك في معاقرها ما استطاع. وهذا ضار بالفرد هادم للمجموع، فلو أبحنا لكل إنسان أن يتلذذ كما يشاء وألفينا حبل الفرد على غاريه يعبث كما توحي له أهواؤه ما انتظم شأن مجتمع ولتعارضت شهوات الأفراد وكانت الفوضى المطلقة. وان جمعية أفرادها ليسوا إعفاء أعني أنهم لا تحكمهم إلا أهواؤهم وشهواتهم الحسية - لتحمل معها بذور الانحلال والانحطاط. وهي آيلة إلى الدمار والتمزق لا محالة - وفضيلة العفة تتطلب من الإنسان القصد في اللذائذ، فإن هو افرط فأنهمك في شهواته أو فرط فأماتها وبالغ في الزهد فقد حاد عن سواء السبيل وابتعد عن نهج الإسلام الشريعة السمحة التي ترى خير طريق في الحياة أن نبيل المرء نفسه ملذاتها الطيبة ويعطيها مشتهياتها ما لم تخرج عن حدود الأخلاق فذلك أدعى إلى نشاطها وأقرب إلى طبيعتها، إنما يجب أن لا تتجاوز الحدود المشروعة ففي داخلها من الملذات ما هو أضمن للسعادة الفردية ولسلامة المجموع ونبراس ذلك الآيات الكريمة
(قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة (كلوا واشربوا ولا تسرفوا)
(يا أيها الذين آمنوا كلوا من طبيات ما رزقناكم واشكروا الله إن كنتم إياه تعبدون. إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهل به لغير الله فمن أضطر غير باغ ولا عاد فلا أثم عليه)
(يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان أنه لكم عدو مبين)
قال الطبرسي من القرن السادس الهجري في (مجمع البيان في تفسير القرآن) ثم خاطب سبحانه المؤمنين وذكر نعمه الظاهرة عليهم وإحسانه إليهم فقال يا أيها الذين آمنوا كلوا - ظاهره الأمر والمراد به الإباحة لأن تناول المشتهى لا يدخل في التعبد وقيل أنه أمر في وجهين أحدهما يأكل الحلال والآخر بالأكل وقت الحاجة دفعا للضرر عن النفس. قال القاضي وهذا مما يعرض في بعض الأوقات وقوله تعالى (كلوا من طيبات ما رزقناكم) أي مما تستلذونه وتستطيبونه من الرزق.