صدق قوله فقد حلف على الجميع وعزم أشد العزيمة أن يزوروه في منزله في صباح الغد ليقيموا عنده النهار أجمعه فيطلعوا على أسلوب حياته معاينة واختباراً. ثم ذهب من فوره إلى أقرب أصدقاء إليه، وأوثقهم مودة عنده وأملئهم جيباً. فاستدان منه ما يستعد به لحفلة الغد، ولم ينس أن يدعوه في المدعوين لشهود ما هو على نية إظهاره وإجلائه
ولكن لا يظنن أحد من القراء أنني أصف هذا الرجل لأنه ممن يستحق العناية الخاصة لميزة في شخصه، أو لمكانة له بين الناس. فإنما أنا أسوقه مثلا لقوم في مصر يريدون أن يقحموا البلاد في مثل ما تورط فيه صاحبنا هذا. فمثلاً قد تكرر ما قال القائلون من الدعوة لمصر في الخارج، وما صاح الصائحون من وجوب إظهار أهل الغرب على ما نحن عليه من رقي وتحضر، وهم لا يظنون على ذلك السعي بالمال مهما عظم مقداره، والحق أنني أعطف أشد العطف على وطنية هؤلاء وسلامة طويتهم. فمثلاً قد ذهب أحد المصريين إلى مؤتمر من المؤتمرات، وكان بطبيعة الحال لابساً بذلة من البذلات الرسمية الوجيهة، فمال عليه جاره وكان من ممثلي بعض دول الغرب فسأله عما هو صانع ببذلته بعد انصرافه من المؤتمر. وأغلب ظني أن ذلك الزميل الأوربي المحترم قد ظن في الممثل المصري أنه لا يكاد ينفلت من المؤتمر حتى يرمي بتلك البذلة فوق أقرب شجرة من شجر الجميز إذا بلغ الطريق المؤدية إلى عاصمة بلاده، وهو راكب جملاً قوياً يحمله في سفره، ثم يقف تحت تلك الشجرة ينتظر مرور أول وعل من وعول الجبل فيرميه بسهم من قوسه الشديدة، ويسلخ عنه جلده، وينشره في الشمس يوماً أو بعض يوم، ثم يلبسه بدل بذلته الرسمية. ثم يتابع سيره نحو العاصمة لمقابلة أولي الأمر فيها، وإبلاغهم نتيجة بحوث المؤتمر الذي كان يمثل بلاده فيه. لعل ذلك الزميل قد حسب هذا، ولا بد أن الممثل المصري قد تصور هذا الظن، ورأى فيه مساساً عظيما بكرامته وكرامة بلاده فغضب له، وجاء يشكوه لبني وطنه ليظهر لهم مقدار جهل الناس بحقيقتهم، وقد سمع هذا القول طائفة من الناس فغضبوا له غضباً شديداً، وجعلوا يطالبون بأن تبذل الحكومة من أموال الشعب بضع مئات من ألوف الجنيهات الذهبية لكي تنظم دعوة لاطلاع أهل الغرب على حقيقة أمر الشعب المصري
وأنني لا أرى مانعاً يمنع من بذل المال، ولا من القيام بدعوة في سبيل مصر، فكل شئ في خدمة مصر هين، وكل قصد الحياة هو خدمة مصر