ولكني مع ذلك أحب أن تتجه الدعوة نحو قصد مخالف كل المخالفة لما يريد هؤلاء السادة أن يدعوا إليه. ولا يسعني إلا أن اعتذر لهم وللقراء عن هذه المخالفة التي قد تغضبهم متى وصفت لهم حقيقتها، ولا أجد شيئاً أقدر أن أعتذر إليهم إلا أن أقول لهم:(لا مؤاخذه)، فإن هذه الكلمة كلمة سحرية، وقد جربت أثرها في مختلف المواقف، فو الله ما خانني سحرها يوماً، ولا خذلني نصرها في ساعة من ساعات الشدة. فكم وطئت على أقدام في الترام وقت الزحام، فلما رأيت ثورة الذي وطئت قدمه أسرعت وتلفظت بذلك الطلسم، فإذا وجهه تشرق عليه ابتسامة عريضة، ويهز رأسه لي، كأنما هو يعتذر عما ظهر على وجهه من التجهم في أول الأمر. وكم أخطأت فلم ينجني من تبعة الخطأ إلا هذا اللفظ المبارك، وكم خرجت عن حدود اللياقة ونفذت إلى العفو الفسيح من مدخل هذا اللفظ البديع. فلا مؤاخذه أيها السادة إذا كنت أعتقد أن خير مصر ونفع الوطن في أن نبذل بضعة آلاف أو بضعة مئات من الآلاف من جنيهات الذهب، على أن يقوم جماعة من المخلصين لمصلحة هذه البلاد بدعوة في شعوب العالم أجمع، يعلون فيها من ذكر مصر، بأن يصفوا أهلها بالتوحش والغلظة، وينعتوهم بأقبح النعوت وأبشع الصفات - وحبذا يوم يعتقد فيه شعوب أوربا وأمريكا أن المصريين لا يلبسون إلا جلود النمور والأسود، ولا يعرفون من المساكن إلا الكهوف والأدغال، وأن لهم قسياً قوية وسهاماً مسمومة، وأنهم يقفون لأعدائهم تحت الصخور ووراء الجذوع، فيسددون إليهم سهاماً مسمية لا ينجو أحد من جراحها، وأن الذي يدخل بلادهم لا يلقى إلا مشقة، ولا يرتاح في حل ولا ترحال. وأن المصريين يأكلون لحم الحيوان بغير نضج، فإذا لم يجدوا من لحوم الحيوان شيئا اشبعوا الجوع بما يجدونه قريباً منهم من اللحم، ولو كان آدمياً؛ وأنهم حديد الأسنان، حمش السيقان، حرز العيون، قبيحوا الخلقة. أقول هذا (ولا مؤاخذه) فأت تلك الدعوى عندي آثر وأحب، وأثرها في ظني أبلغ في إجلال القوم لنا ومراعاتهم لحرمنا. فأن الناس على حضارتهم لم يزيدوا بعد على أنهم متوحشون، قد طلوا ظاهرهم بطلاء من الفضة أو الذهب، وأما باطنهم فلا يزال فيه الحيوان البري الذي يخشى القوة الوحشية خشية أعظم من تقديره لفضائل الفلسفة
وإنها لإهانة لا تعدلها إهانة أن يذهب نفر من أهل مصر ليعلفوا في ملأ الشعوب الأخرى أن شعب مصر يلبس الملابس المعتادة، لا جلود الحيوان، وأنه يأكل الخبز والطعام، لا