زملائه، وذاع صيته، ولست أخفي ما كان يجيش في نفسي نحوه من عواطف شتى هي مزاج من حب الخير له، والغيرة منه، والعطف عليه، والانجذاب إليه، والدفاع عنه. . . مع قليل من الحسد كنت أكتمه وأضغطه وأدفنه جاهداً حتى أنحدر في نفسي إلى كهف سحيق عميق.
وكيف لا أغار ونحن من قرية صغيرة نكاد نكون الوحيدين من بين المتعلمين الذين أفلحوا وواصلوا التعليم. ثم كيف لا أنجذب إليه وهو ليس غريمي في شيء. وأخيراً قلت لنفسي: إن (حمادة) سيكون فخراً لقريته بل لوطنه، فهو جدير بحبي وإخلاصي، وكلما سئلت عنه لا أملك غير الإعجاب به والإكبار من شأنه.
وكنا معاً في إحدى العمائر القريبة من الحي الجامعي، بقينا به حتى تخرجنا، أما (حمادة) فقد ذهب إلى الإسكندرية يبحث عن أفق أوسع لميوله ومطامحه، وبقيت أنا تحت التمرين في مكتب محام شهير.
وفي هذه الفترة أحسست بالفراغ الذي تركه حمادة، وأخذت أطالع كل يوم أخلاطاً من الطباع والعقول والأرواح. فأحسست بمرارة الغربة عن كل من حولي، وانطويت على نفسي كالثعبان. والغربة المريرة والبد القارس سيان في هذا. . . ولا أدري ما وجه الشبه بينهما، ولكن هكذا كنت أحس. . . وهكذا كنت فعلا. . . ولا سيما يوم سرى الدفء في أوصالي. ياله من يوم. . . يوم اجتمعت مع الرفاق في منزل أحدهم. . . يوم عيد ميلاده هو وميلاد شقاوتي أنا. . . يوم أديرت الكئوس، وتطوحت الرءوس ورقصت الغانية عارية، إلا من ذلك الثوب الأحمر الشفاف. . . فلم يخف فتنة، ولم يشف لوعة. . . يالها من ليلة حمراء.
كانت هذه الليلة كالشرارة التي أطلقت نفسي من نفسي. . . فنفثت سمومها في كل وكر وبؤرة. . . حقاً كنت كالثعبان: أستبرد ما حوله، واستمرأ الفساد، وتمسكن حتى تمكن. . .
وعدت ليلتها أجرر أثقالاً من الآثام، ما ألبث أن أتعثر فيها حتى أجهد في إخفاء آثارها في الطريق الطاهر الذي كنت أطويه صبحاً ومساء في قدسية الراهب وبراءة الملاك.
وذاب العمود الفاصل بين الفضيلة والرذيلة أمام عيني. . . نعم ذاب كالثلج، وأحسست بلذعاته تحز في قلبي حتى تجمد في صدري. . . فلم يعد كما كان. . .