واعتزلت، وتخلفت عن ركب الحياة أسبوعاً، ورحت أحسد الأحياء وأخبط في الظلام الملتوي المعقد، فتذكرت ذنب الضب الذي قالوا أنه أعقد شيء في الوجود.
وانطلقت ذات صباح إلى شرفتي، أتخفف من أثقال نفسي، فرأيتني كالسمكة تخبط في الشبكة. . . فقد ملأت هذه الفتاة مشاعري، وما إن غابت عن نظري في منعطف الطريق حتى عدت إلى مخدعي بفكر جديد أو قلب جديد. . . وأخذت أرقبها كل صباح ومساء ذاهبة آيبة إلى جامعتها، كتبها تحت إبطها، وعينها إلى الأمام، وكانت في خيالي كالفجر النادي يتمناه قلب شفه السقم، وأضناه الظلام. . . وسميتها (ريحانتي الطاهرة)، وما كان أليق هذا الوصف بمن صحا عليها قلبي بعد غفوة أنسته أحلام الربيع.
وذات صباح، طرق الباب طارق، فإذا بساعي البريد يحمل إليَّ من (حماده) خطاباً، أعتز به، فلا أتسلى عن همومي إلا بتلاوته، وإني لقارئ عليكم قصة أحلامه وأحلامي أودعتها وإياه حطام قلبين ذابا في سراب.
الإسكندرية في ٢٠ أبريل
أخي أنور
أحييك وأرجو لك الخير كله. شاءت الأقدار أن تباعد بيني وبينك، فقد عينت معيداً بجامعة فاروق، وأنا الآن بصدد إعداد رسالة الماجستير في ميتافيزيقا الوجود الذهني،. . . وكنت أظن يا أخي أن الإسكندرية ستلقاني ببحرها الصافي وسمائها الباسمة ونسائمها الرقيقة، ولكنها تنكرت لي، وتجهمت في وجهي، وضاقت بي وضقت بها. . .
أخي: وفاؤك لي. وعطفك علي يدفعانني إلى أن أبثك الآن بعض ما بي لعلي واجد في رحابك ما يزحزح هذا الجبل الرابض على روحي.
أنور: أكتب إليك، وأنا ألقي بنظري إلى البحر من الميناء الشرقي، والعاصفة القائمة تلحفني سمومها، وتعوي أصداؤها كالذئاب، في أحناء ضلوعي، والسماء. . . نعم السماء التي كانت نزهتي في الليل والنهار، تلفعت بالسحاب الأسود، يقطر الدم من حواشيه، وأزهاو الشرفة قد جف ريقها واحترقت أنفاسها، وتبدل شذاها غباراً، (غصة في الحلق). . . لم أعد أطيق المكث هنا. . . ولا تحسبن جديداً في حياتي طرأ على نفسي. . . ولكن. . . ماذا أقول؟ منذ فارقت العمارة، فإن في النفس ذكريات. . . سأذهب إلى الريف أقضي