مهدت لك السبيل إلى العلم والعقل. وترامي خبر الحديث إلى أبيك فابتسم في صمت، وأحس أن عاملين يتعاورانه في شدة وعنف. . . عاملين من الأسى والضيق، وقد تيقظت فيه الذكرى الحزينة - ذكرى اليوم الأخير فزلزلت جوانبه، لأنك تذكر الحادثة التي كان يطمع أن تكون قد نسيتها.
وتصرمت عوام الدراسة في غير وناء ولا بطئ، فإذا انتم ملء العين، ملء السمع، ملء الفؤاد، وإذا أبوكم الشيخ ينتشي يوم أن تخرجتم في الجامعة. . . ينتشي نشوة عارمة تنفث فيه روح الشباب الذي ولى منذ زمان، فيزهو في غير تحرج ويفخر في غير رزانة
آه، يا صاحبي، إن الحادثة السوداء ما تبرح وخزاتها تعتمل في قلبك الرقيق فتحول بينك وبين أبيك، رب الدار التي ضمتك في حنان ونشأتك في عطف، فتنطوي عنه إلا حين تصبو إلى عطفه فنطير إليه لتنثر على عينيه معاني الاحترام والمحبة، فترضى نفسه ويطمئن قلبه، وتسعد أنت باللقيا الحبيبة حين تراه يرفل في الصحة والعافية، وينطوي هو عنك إلا حين يدفعه الشوق إلى بنيه، زهرة العمر وفرحة القلب ونور الحياة، فينطلق إليك لينفتح أمامه باب دارك الأنيقة يستقبله في كرم ووفاء، في حب وإخلاص
وتصرمت الأيام على نسق فيه الهدوء والراحة، وفيه الاطمئنان والسعادة؛ لم تشبه حادثة ولم يعكره شجن؛ إلا يوم أن جاءت رسالة من أبيك تقول (. لست ادري، يا بني، وما يشغلك فيصرفك عن أن تزورني، على حين أني ارقب زورتك في شوق ولهفة، وما منعني عنك إلا أنني أعاني داء عضالاً يقعدني عن الحركة والنشاط. ولقد ظننت بادئ ذي بدء - أن الغمرة لا تلبث أن تنجلي وأن السقيم يوشك أن يبرا، فكتمت عنك الخبر خشية أن أفزعك بالخبر أو أن أعنيك بالسفر أما الآن وقد عز الدواء وطال أمد الداء، فلا معدي لي عن أن أكتب إليك علي أجد في رؤيتك شفاء الداء أو راحة الضمير. .)
وتلاقي الأخوة الثلاثة الذين صقلهم وشذبتهم التجربة. تلاقوا لدى سرير أبيهم المريض. وما أجمل الوفاء والرجولة والتضحية وقت الشدة!
ورأيتم - يا احبي - إلى جاب المريض سداً منيعاً يطمعأن يرد عن الرجل الواهي غائلة العلة ويجهد أن يدرأ عنه سقام البدن، لا يدخر الوسع ولا يضمن بالجهد؛ وهو بينكم يرمقكم بنظرات فيها الحنان والشكر.