وجاء الطبيب يعلن رأي العلم فقال (لا بد من أجراء عملية جراحية فنظرت في ثبات وقوة وتقبلت الخبر المفزع بشجاعة وصبر.
واسر إليك أبوك بذات نفسه فقال (هاك، يا بني، مفتاح الصندوق الذي ينضم على وفر الشباب وذخيرة العمر، أحفظه معك ليكون مالي بين يديك. .)
فقلت وأنت ترد له المفتاح (لا عليك اليوم، يا أبت، فمالي كله فداء لك)
قال (لا ريب، يا بني أن الأيمان حين يتغلغل في القلب يصل بينه وبين السماء بخيوط من نور تدفعه عن الأرض وتجذبه إلى السماء فتصفو روحه فتستشف أشياء من وراء الغيب لا تستطيع الروح الترابية أن تسمو إلى شئ منها، وأنا من بيت فيه الدين والأيمان فلا عجب إن استشفت روحي أن النهاية تدنو مني رويداً رويداً)
قلت والعبرات تترقرق في محجريك (لا باس عليك، فما هي إلا غمرة توشك أن تنجلي)
قال (مهما يكن في الأمر من شيء فلا بد أن تأخذ هذا المال قبل أن تمتد إليه يد فتعبث به أو تبعثره)
وأصر هو وأصررت أنت، ولكن يدك لم تصل إلى قرش واحد من أبيك، عفة وسمواً
ووضع الطبيب المشرط ثم رفعه، فأحس أبوك أن الشيخوخة الفانية تتهاوى رويداً رويداً، فخلا إليك يحدثك حديثاً خافتاً فيه سمات الضعف والإعياء، قال (الآن - وأنت رجل وأب ورب أسرة تستطيع أن تفهم نوازع الأب وتقدر معنى الآصرة التي تشد بين قلب الأب وأبنه - أكشف لك عن أمر عاش في مسارب دمي عمراً يربى على العشرين سنة، يخزني في قسوة ويؤرقني في عنف، وأنا أكتمه في خلايا قلبي لا أستطيع أن أتحدث به لرجل من الناس خشية أن تتحطم في ناظريه كرامتي أو أن تتضع في نفسه كبريائي. ولكن لا أحس غضاضة في أنثره على سمعك ليبلغ نبضات قلبك وليتغلغل في خفقات روحك أتذكر، يا بني، يوم الحادثة السوداء، يوم أن أمرت فرفع الطعام من بين يديك - أنت وأخويك - أحوج ما تكونون إليه؟ فأنا منذ ذلك الحين وأنا لا أفتأ أفزع بالأسى وأروع بالحسرة لأنني طاوعت نفسي فأسلست لفتاة خرقاء في غير أناة ولا روية. ولطالما نازعتني نفسي إلى أن اكشف لكم عن خلجات ضميري وخطرات قلبي، لأتخفف من عبء ثقيل أرهقني طويلا، غير أن أبوتي الشامخة كان تترفع عن أن تهبط إليكم لقد أحسست الزلة التي ارتكبت على