للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

شهر شريف فيه نيل المنى ... وهو طراز فوق كم الزمان

طوبى لمن قد صامه واتقى ... مولاه في الفعل ونطق اللسان

ولكن هذه الأبيات أشبه بكلام الفقهاء منها بشعر الشعراء. وشاء أبو نواس أن يشارك أهل الزهد في هداهم كما تبرز في ميدان الفسوق وفاق الخلعاء في غوايتهم وتهتكهم، ورغب تلميذ ولبة بن الحباب أن لا تخلو من سابقة حلبة شعرية فترك في التقوى والورع أبياتاً سيارة تنافي ما أشتهر عنه من فساد الطريقة، فمن ذلك ما رواه أبو هفان من أن العتابي لما تنسك نهي أن ينشد شعر أبي نواس فأظله شهر رمضان فدخل إليه رجل معه رقعة فيها

شهر الصيام غدا مواجهنا ... فليبهجن رعية النسك

أيامه كوني سنين ولا ... تفني فلست بسائم منك

فكتب العتابي البيتين وقال وددت أنهما لي بجميع ما قلته من طارفي وتليدي، فقال الرجل أنهما لأب نواس فمزق الرقعة ورمى بها. وكان أبا نؤاس بعد أن أغترف من معين اللذات بكلتا يديه عافها وزهد فيها زهد الملل والسأم لا زهد الورع والعفة فمال عن الدنيا وهو يردد بيتيه السائرين:

ولقد نهزت مع الغواة بدلوهم ... وأسمت مرح اللهو حيث أساموا

وبلْغت ما بلغ امرؤ بشبابه ... فإذا عصارة كل ذاك أثام

وفي ديوان أبي نواس باب واسع للزهد بحثت فيه عن هذين البيتين الذين أعجب بهما العتابي فلم أجدهما، وليس هما بالجودة التي تسبغها عليها القصة فلعلهما من وضع القصاصين قاصدين الغرابة والطرافة. ولقد صادف عنف أحكام المجتمع الإسلامي في رمضان على الشعراء المتمردين على الآداب العامة - رد فعل قوي فيهم فنتج أدب ثائر صاخب على هذا الكابوس الذي حال بينهم وبين ما يشتهون ومنعهم من الاندفاع في تيارات لهوهم ومعاقرتهم اللذات، ففي عصر ازدهار الحضارة الإسلامية يصرخ أبو نواس في بغداد عاصمة الخلافة العباسية ويصخب صائحاً ممزقاً ثوب ريائه الشفاف:

منع الصوم العقارا ... وزوى اللهو فغارا

وبقينا في سجون الصوم ... للهم أسارى

غير أنا سندارى ... فيه من ليس يدارى

<<  <  ج:
ص:  >  >>