للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الغزليين التي شاعت فيه. وقد دافع بعض النقاد عن الجزالة والقوة كما دافع آخرون عن العذوبة والرقة، ووقف آخرون يحددون مواقف هذه ومواقف تلك كابن الأثير في المثل السائر وسواه، ولكن العصور الأخيرة كانت تعد العذوبة ضعفاً من الشاعر وميلا منه إلى العامية، وبهذه النظرة كانوا يحكمون على شعر البهاء زهير الشاعر المصري المشهور، ولكننا نقول للناشئين: ربوا ذوقكم الأدبي، وارهفوا مشاعركم الفنية، وتأثروا في حياتكم ومذاهبكم الأدبية بالحياة والحضارة التي تعيشون فيها، وستدركون بأنفسكم الحقيقة الأدبية في هذه المسألة الفنية. ولا شك أن عذوبة الأسلوب وسلاسته يجب أن تبرز في إنتاج الشاعر وفنه، لأثر الحياة والحضارة في نفسه؛ ومع ذلك فهذه العذوبة والرقة يجب ألا تنقلبا ضعفاً وعامية، وأن توشي بألوان من الجزالة في مواقف خاصة تستدعيها حياة الشاعر ونفسيته قبل كل شيء؛ كما يجب ألا تنقلب الجزالة حوشية وإغرابا وتعقيداً عند الشعراء الذين يحافظون على الجزالة. وأحسب أن شعراءنا المعاصرين الذين يتكلفون الألفاظ اللغوية الكثيرة البعيدة في قصائدهم إنما يفعلون ذلك تقليداً فحسب وفي مطلع حياتهم الفنية التي يكثر فيها الناشئون من التقليد؛ ولو كانت قصيدة - نهج البردة لشوقي مثلا - قد صيغت في أسلوب عذب رقيق سهل عن أسلوبها التي صيغت فيه، لكان أثرها الأدبي أعظم في نفس الأمة وذوقها ومشاعرها الأدبية، ونحن على أي حال لا يمكن أن نعيب الشعر الجاهلي لجزالته، فقد رأيت موقف النقاد من الجزالة وإعجاب الكثير منهم بها ودفاعهم عنها؛ فوق أنها أثر من آثار البيئة في الشعر الجاهلي.

ومن خصائص الشعر الجاهلي أيضاً القصد إلى المعنى في إيجاز ويسر وقلة إطناب. ولا شك أن العصور الأدبية التي تلت العصر الجاهلي وتعددت فيها ألوان الثقافات ومظاهر الحضارات قد أبعدت الشاعر عن هذا الاتجاه، ودفعته إلى الإطناب وشتى ألوان التصوير؛ ووقف النقاد حيال ذلك طوائف: طائفة تدعو إلى الإيجاز وتراه البلاغة والبيان، وطائفة تشيد بالإطناب وترى فيه جمال الفصاحة وروعة التصوير، وأخرى تحدد للإطناب مواضع وللإيجاز مواضع كقدامة في نقد النثر وأبن سنان في سر الفصاحة. ونحن لا نقول للشاعر المعاصر: آثر الإيجاز أو اعمد إلى الإطناب؛ وإنما نقول: إن أساس الجودة الفنية أن تؤدي معانيك في رفق ويسر وقلة فضول. وفي الآداب الغربية الآن مذاهب تدعو إلى القصد في

<<  <  ج:
ص:  >  >>