مرة أخرى؛ وبارتو من أبناء هذه المدرسة كما قدمن. وجاء عنف الحركة الهتلرية في ألمانيا نذيراً جديداً لفرنسا بوجوب التحوط ومضاعفة الأهبات والمحالفات العسكرية. وقد أبدى بارتو في تنفيذ هذه السياسة نشاطاً وبراعة فائقين فطاف بالبلاد المحالفة لفرنسا مثل بولونيا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا ويوجوسلافيا ليحكم أواصر التحالف بينها وبين فرنسا، ولكي تحاط ألمانيا بسياج قوي من الأمم التي تقف وقت نشوب الحرب إلى جانب فرنسا. بيد أن أعظم ظفر استطاع بارتو أن يتوج به سياسته هو تقوية التفاهم الفرنسي الروسي واستئناف سياسة التحالف القديم بين روسيا وفرنسا، وإدخال روسيا في حظيرة عصبة الأمم وحظيرة الدول الغربية بعد أن لبثت بعيدة عنها زهاء ستة عشر عاما. وكانت هذه أول مرحلة في سياسة فرنسا الجديدة لتحقيق عزلة ألمانيا عن باقي الدول الأوربية؛ وكانت المرحلة الثانية هي توثيق أواصر التحالف بين يوجوسلافيا وفرنسا ثم حمل يوجوسلافيا على التقرب من إيطاليا، وأخيراً تحقيق التفاهم بين فرنسا وإيطاليا وتسوية المسائل المعلقة بيتهما وحملها بذلك على نبذ سياسة التفاهم مع ألمانيا بصورة نهائية. وكانت زيارة الملك اسكندر ملك يوجوسلافيا تحقيقاً لهذا البرنامج. ولكن وقعت فاجعة مرسيليا التي ذهب ضحيتها الملك اسكندر ومسيو بارتو؛ ولقيت السياسة الفرنسية بذلك صدمة قوية. بيد أنها صدمة مؤقتة، والظاهر أن فرنسا ستمضي في تنفيذ برنامجها السياسي، وأن مسيو لافال وزير الخارجية الجديد، سيستأنف العمل حيث وقف مسيو بارتو؛ وسيقوم مكانه بزيارة رومه، كما كان مقرراً من قبل. ولكن الموقف ما يزال غامضاً، ولا سيما إزاء وقوعه في يوجوسلافيا عقب وفاة الملك اسكندر من الحوادث والتطورات الخطيرة
تلك سيرة الرجلين اللذين فقدتهما فرنسا في أسبوع واحد. وقد فقدت فرنسا في الأعوام الثلاثة الأخيرة جل أقطاب زعمائها القدماء، مثل كليمنصو وفوش ودومير وبريان وبوانكاريه وبارتو؛ وطويت بذهابهم مرحلة أو مراحل من تاريخ فرنسا المعاصر، ولم يبق من أقطاب ساسة الجيل المنصرم سوى القلائل، مثل تاريدو الذي يمثل الكتلة القومية، وهريو الذي يمثل السياسة الاشتراكية. ولا ريب أن فرنسا ستشعر بفداحة هذه الخسارة خصوصاً في هذه الآونة العصيبة التي تقتضي كثيراً من العمل السياسي المستنير. بيد أن للسياسة الفرنسية تقاليد راسخة، وسوف يبرز إلى الميدان السياسي رهط من الساسة