التحفظ، وأحسب أنه قال لي: إذا كنت أنا مسيحياً فإن جريدتي إسلامية.
ولعل الناحية الإنسانية أو الناحية الشخصية مغتمضة في رجل على غرار تقلا باشا لأن الناس لا يعرفون عنه سوى الناحية العامة، ولكن الإنسان إذا تبطن هذا الجانب من حياة الرجل فسوف يلقى عجباً.
وحسب الإنسان أن يدرك أنه ابتنى - وهو مسيحي - مسجداً في ضيعته بالمنوفية، وإذا قلت له في ذلك، قال إن الأجير الذي يتقي الله ويتعبد له لابد أن يخاف الله في عمله، فلا يعمل إلا بما يرضى الله.
ويحضرني الساعة أن سيدة جليلة من قريباته ماتت في الإسكندرية في مطلع عام ١٩٤٠، فذهبت إليه أعزيه، ثم رأيته بعد أيام في الإسكندرية فإذا هو مشغول الذهن بأشياء لم أدر كهنها، ولكن لم يمض غير بعيد حتى عملت أن تقلا باشا ورث مالاً جليلاً من قريبته التي قضت، بيد أن شيئاً من هذا المال لم يدخل جيبه ولم يحتجزه لنفسه، وإنما فرقه بين الجمعيات الخيرية في الثغر، غير مفرق بين جنسياتها ولا بين أديانها ما دامت رسالتها - واحدة - هي رسالة الخير.
وقبل وفاته بأيام، زرته في مكتبه فإذا هو ينوء بأثقال من الهم، عرفت مظاهرها من وجهه، وغابت عني بواطنها، وإذ سألت في ذلك صفيه وخليله المغفور له أنطون الجميل باشا لم يحر جوابل، ولكن حين مات الرجل عرفت أن هذا الرجل العظيم كان يرهق نفسه في العمل، وهو واقع تحت ظروف شخصية لا يكاد يحتملها بشر.
ولا احسبني بصرت برجل يحترم معاونه ومساعده في عمله، وينزله من نفسه منزلة سامية، كما بصرت بتقلا باشا مع صديقه أنطوان الجميل باشا، فإنه لعمري ما كان يقدم على عمل دق أو جل حتى يستشير أنطوان باشا ويتلقى موافقته ومباركته، ولقد حدثني أنطوان باشا غداة موت هذا الرجل العظيم بأنه لم يختلف معه على أمر قط. ومما ساقه مساق المثل على مبلغ ما كان بينه وبين تقلا باشا أن وفداً من جمعية القرش زاروه - أي زاروا تقلا باشا - وطلبوا إليه أن يتبرع بمبلغ لمشروع مصنع الطرابيش فسألهم: بكم تبرع أنطون باشا؟ قالوا بجنيهين. فأجابهم: إذن فأنا أتبرع أيضاً بجنيهين.
ولو أن التقاليد الصحفية التي أستنها تقلا باشا بقيت لما أشتكى (قادة الرأي) من حيف لحقهم