للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الاثنان على وجهيهما وراحا في إغمائه، دون أن تمتد إليهما يد تحاول وفعهما؛ إذ أن الأصدقاء انسحبوا من الدار وتركوا الوالدان إلى رحمة الرب الرحيم، ولبث الوالدان هكذا ساعة وبعض الساعة وازدادت وطأة الصمت على البيت الكبير بعد أن مضى كل إلى شانه، وجلس الخدم يذرفون دموعهم في صمت، إلا تلك الممرضة التي دفعها شعور خفي إلى دفع باب غرفة المتوفاة لترى منظراُ عقد لسانها وأدهش عقلها. . الأم على فراش الطفلة وقد أحاطت بمناها الجسد الصغير الهامد وألقت برأسها على الوسادة ونامت هي الأخرى، ولكن. . إلى الأبد!

أما الوالد فلم يكن في الغرفة، إذ أنطلق هارباً تاركاً البيت إلى حيث أخذ يسير تحركة لا شعورية وق

الجم الحزن لسانه وجعل دموعه تتجمد في مآقيها، وانزل على ذاكرته ستاراً من النسيان. كان يمشي مسيراً لا مخيراً كان هنالك قوة خفية تدفعه نحو جبانة القرية

وهناك وقف جامداً كالصخر والمكان حوله تبعث على الرهبة: الكنيسة القديمة الملتفة بأرديتها الموحشة بالغيوم وأشعة القمر تحاول أن تسترق فرجة تطل منها على الكون العظيم، وبجانبه تأثرت النصب والقبور. . هنا مدينة الأموات، وهناك دنيا الأحياء وهو حائر بينهما، حائر ضائع محطم!

وألقى الرجل نظرة ذاهلة على القبور المتناثرة، ثم سار وجلس على قبر أخضر من الطحالب التي عليه ممتصة عناصر الأجيال، ونظر إلى السماء طويلا، ثم شعر بالدموع تسيل على وجنتيه في خطين غريرين وبدأت سحب النسيان تنجاب عن ذاكرته رويداً رويداً وانتقلت به الذكرى المريرة القاسية إلى (أميلي) وحيدته المسجاة. . . وهناك في المقبرة الصامتة الموحشة أنبعث صوت ثائر يخاطب الأشباح.

وارتفعت قبضته تهدد: لم فعلت ذلك يارب؟ ولم تدعوك رحيماً ما دمت تسترد ما تهب ولا تخلف لنا سوى اللوعة؟ ابنتي لتترنم على معاول الهدم؟ أتزرع لتنعم بالحصاد وحدك؟ أترضى لذلك الجسد الغض بالتواء تحت أحد هذه الأشجار الثقيلة؟ آه يا لقسوتك آيتها السماء. . وازداد الأسى بالرجل واخذ يصيح ويزأر كالوحش الجريح.

وفي تلك اللحظة تحرك في المقبرة شبح أسود، اخذ يسير بخطى خفيفة فالتفت الرجل ليرى

<<  <  ج:
ص:  >  >>