فبالته، فآخذه الفزع وكف عن صراخه ووقف على قدميه منصتاً ونفذت أشعة القمر في تلك اللحظة وألقت شعاعاً باهتاً على القادم الغريب، فأجفل الرجل إذا لم يكن القادم سوى القس. . . القس الذي صلى على فتاته الصلاة الأخيرة. .
ووجم الأب ونظر بغرابة إلى القس الذي عقد يديه إلى صدره، وبشفتين مرتجفتين وصوت رجراج أخذ يقول: كفاك تجديفاً يا رجل! فالله كفيل بان يهب نفسك الثائرة القلقة أمناً وسلاماً فهو إذ يضرب بيمينه محكم ما، تمتد يسراه فتسمح ما ينز من عليها وتدفئها تحت قبر من هذه القبور.
ووضع القس يده في يد الرجل قائلاً. أركع وأتل معي ما تحفظ من صلوات. . وركع الرجل الذي يتناسى ربه في غمرة الأحزان والرجل الذي يزداد التصاقاً به كلما هبت في وجهه أعاصير الحياة؛ الثاني يردد صلاته، والأول يبلل بدموعه صفحة القبر الشاحب.
وارتفع صوت القس فجاه قائلاً: صل، أنت الآخر من اجلي، فإنا الآخر قد فقدت عزيزاً. كنت أتلو في مسامع ابنتك صلاتها الأخيرة بينما كانت ابنتي تموت في بطأ. . . وحيدة؛ كنت مضطرا إلى تركها ما دام واجبي يدعوني، ولم أشأ أن احرم فتاتك هذه التغريد، فحرمتني الأقدار وحيدتي (لوسي)، لوسي التي كنت أستيقظ على صوت ضحكاتها الرنانة، وأخشع وهي تتلو لي فصولا من كتابها المقدس الصغير، وابتسم وهي تروي على مسامعي أقاصيصها الساذجة، كنت أودها تعيش وتطبق بيديها عيني بعد وفاتي، فشاءت الأقدار أن أتولى أنا هذه المهمة التي قمت بها لأمها من قبلها.
ونظر الرجل إلى القس معزياً ولم يجد ما يقوله فسالت الدموع، أبلغ من كل كلام؛ ولكنه شعر للظى يحف في أعماقه، وبالأسى يتسرب شيئاً فشيء من نفسه بعد أن شاهد أمامه زوجته المتوفاة وبجانبه ملاكه الصغيرة؛ ثم رفع بصره إلى السماء، فشعر بالتعزية تنبثق منها. ونهض القس من ركوعه وقطع بصوته الأجش حبل أفكار الرجل قائلاً: غداً ستخرج جنازة واحدة تجمع ثلاثة، فإذا كنت تملك بقية من دموع فاذرفها الآن. . . هنا على هذا الأديم؛ أما أنا. . . فلا أملك سوى استسلامي والآن وداعاً. . .
وافترق الوجلان. . . . ابتلعتهما الظلمة وسار كل في طريقه. . . الرجل إلى بيته الصامت الحزين، والقس إلى كوخه المنعزل في أحضان الوادي الهاجع.