المحدثين ليهدم رجلا يبكي عليه ويتحسر، أو ليهبه التأييد المطلق وهو يكن في نفسه رأيا خاصاً قد يخالف ما بغي (قاسم) وارتاه. فأكون كما قلت:
وهذا يصيح مع الصائحين ... على غير قصد ولا مأرب
وما أسلفت كاف لتجريد الأبيات من وجه الاستدلال فلا تنهض حجة على أفكاري وآرائي، وإلا فلماذا لم يتكرر مثل هذا الموقف مع السيدة (ملك)؟
وإنه لواجب أن تحاط علماً بأن كتاب (قاسم) في المرأة أحدث هزة عنيفة، وقيل عنه حينذاك بأنه يدعو إلى الحرية المطلقة؛ وكم في هذه الدعوة من جرأة جديرة بأن تكون عذراً يصرفني عن قراءة الكتاب.
فالأمر لا يخرج عن كونه تبايناً بين رأيين. أما الرجل نفسه فعلم شامخ من أعلام نهضتنا الحديثة له قدره وخطره، وإثم في حق الوطن كبير لو لم أرثه وأبكيه إذ فقدناه، ولقد فعلت فوفقت. . . وتعابثت بشيء في يدي، وأنا أتلو بصوت خفيض - كأني أحدث نفسي. . .
لمحت من مصر ذاك التاج وألقمرا ... فقلت للشعر هذا يوم من شعرا
يا دولة فوق أعلام لها أسد ... تخشى بوادره الدنيا إذا زأرا
أعزي القوم لو سمعوا عزائي ... وأعلن في مليكتهم رثائي
وأدعو الإنجليز إلى الرضاء ... بحكم الله جبار السماء
وهنا التفتت إلي وفي نظرته القوية آيات الاحتجاج ثم قال - ماذا؟: ماذا تريد؟
قلت - أما أنا فلا أريد شيئاً. . . وإنما هناك من يريد أن يؤاخذنك على قصيدتين: إحداهما في مدح (إدوارو السابع) والثانية في رثاء الملكة (فكتوريا) ومنها هذه الأبيات.
قال - يا محدثي. . . إنما هي نزعة إنسانية جارفة تحكمت في شعري السياسي تحكم القضاء في أبن الفناء، فجعلتني أمدح العدو وأرثيه، ولا يستطيع منصف ناقد أن يعيب على مسلكي فقد مدحت الإنجليز في بلادهم وحاربتهم في بلادي عنيفاً قاسياً، وليس هذا في شرعة الحق بمستنكر، وهاتان القصيدتان إن دلتا على شيء فإنما تدلان على خصلة حميدة في شعب مصر تعلى من شأنه وترفع؛ فهو لا يحارب في الأجنبي جنسيته وإنما يحارب فيه أخس طباعه وهو استعماره للبلاد، واستعباده للناس. . . ولكل امرئ يعلم مقدار حبي لأمة اليابان وإعجابي بها، ولكن ذلك لم يمنعني مطلقاً من أن أقف في الحرب بينها وبين