إلى هذه السلبية ترها واضحة جلية في تصرفاته منذ نعومة أظفاره، فهو سلبي في انقطاعه عن التدريس في المدرسة النظامية في بغداد؛ وهو سلبي في تلك الجولة الطويلة العريضة التي قضاها بين مكة والقدس ودمشق حاجاً ومجاوراً؛ وهو سلبي في اختلائه تارة في الصخرة المشرفة في القدس وفي منارة الجامع الأموي في دمشق تارةً أخرى؛ وهو سلبي في انقطاعه السريع عن التدريس في المدرسة النظامية في نيسابور؛ وهو سلبي في إقامته الأخيرة في طوس بين مدرسة الفقه وزاوية الصوفية ورضاه بالحياة في هذه البلدة الصغيرة بعد أن لمع نجمه وعلا قدره فأصبح علماً من أعلام الهداية الإسلامية يهتدي به في تلك الظلمات ونوراً يقتبس منه في هاتيك الأيام الداجيات.
ويقيننا لو أن الغزالي كان إيجابياً مع فضل عقله وعلو همته لكان شأنه في الحياة غير ما نعرف وفوق ما نعرف ولكن شاءت الأقدار أن يعيش حياته سلبياً فتسوقه هذه السلبية إلى ذلك السلوك الذي لبس معه الثياب الخشنة وقلل من طعامه وشرابه وأرهق جسمه ونفسه بكل ما فيه إرهاق لذلك الجسم الضعيف وتلك النفس المتألمة. وانطوى على نفسه ذلك الانطواء الذي بدأ في أكبر أيام طفولته وانتهى بانطفاء سراج حياته رحمه الله.