الحياة الحافلة بمواضع الدرس والتحليل على رغم قلة سنيها وضيق أفقها فندل على بعض ما فيها من مواضع تعين على فهم تلك النفسية التي أنتزع منها الغزالي أقواله التي رأينا فيها قواعد نفسية تنطبق على قواعد علم النفس الحديث انطباقاً إن لم يكن تاماً في العرض والجوهر فهو تام ولا شك في الجوهر كامل في المعنى.
نحن وإن كنا لا نعرف مما في أيدينا من الكتب عن شخصية الغزالي في أدوار حياته المختلفة ما يكفي لتحليل شخصيته تحليلا نفسياً صحيحاً ولكننا نعرف جيداً أن والد الغزالي كان فقيراً جاهلا يشعر بالضعف فساقه الشعور بالضعف إلى الله القوي القادر (سبحانه وتعالى) فاعتصم به وخضع له وأنقاد إليه وأعتمد عليه، فأنتقل هذا الشعور من الوالد إلى الولد بالذات في حياة الوالد، وبالواسطة بعد وفاته، وقد قوى اليتم والفقر في نفس الغزالي الشعور بالمضعف فزاد هذا الشعور غريزة الخضوع والانقياد تحركاً وهياجاً في نفسه فغدا سلبياً كل السلب، فاصطدمت سلبيته بإيجابية الحياة، وبهذا الاصطدام نشأت المعركة الهائلة بين هذه السلبية المسلحة بعقل من أقوى العقول وإرادة من أقوى الإرادات وبين الحياة الإيجابية الحافلة بالخير والشر والحلو والمر. رأى الغزالي ضعفه حقيقة ماثلة أمامه فآمن بهذه الحقيقة إيماناً تحول فيما بعد يقيناً آخذاً بمجامع قلبه مستولياً على جملة نفسه فدفعه يقينه بالضعف إلى الخضوع المطلق فسلك سلوكاً هو السلبية بعينها والانهزام النفسي بذاته. وظل يتدرج في هذا السلوك السلبي حتى أنقطع عن الدنيا انقطاعاً لا هوادة فيه وأعتزل الحياة اعتزالا لا رحمة معه. ونحن لا يعنينا الآن من حياة هذا الرجل العظيم شيء أكثر من ذلك التأمل الذاتي الذي كان مكباً عليه متعلقاً به ممارساً له بإرادته الصميمة سواء أحتك بالحياة أم أعتزلها، وسواء أجتمع بالناس أم اختلى بنفسه دونهم. وما هذا التأمل الذاتي الدائم إلا التنفيس عن رغباته المكبوتة بشعور الضعف وما يتبع الشعور بالضعف من الخوف والخجل والخضوع والانقياد وإلا التبرير لهذه السلبية المستحكمة في نفسه المأزومة؛ وهو فوق هذا كله محاولات وتجارب لحل العقد النفسية التي كان يحس بها إحساساً مبهما كلما صدمه مطلب من مطالب الحياة ودهمته ضرورة من ضرورات المجتمع. ويمكننا أن نجزم هنا أن ذلك الاضطراب الملحوظ في حياة الرجل الروحية والجسمية، المادية والأدبية هو مظهر واضح لهذه النفسية المصابة بالسلبية العنيفة في ذلك الزمن الإيجابي العنيف. أنظر